كتب فادي عبود في “الجمهورية”:
تمّت الاضاءة على موضوع اللجنة الموقتة لمرفأ بيروت بسحر ساحر، ومشكورة بعض وسائل الاعلام على الصحوة الفجائية بعد سنين وسنين من رفع الصوت والتنبيه الى خطورة ما يحصل في مرفأ بيروت وانعكاسه على الاقتصاد. لا أذكر مناسبة او خطة او كتاباً او مقالاً او تعليقاً على مدى السنين الماضية لم أثر من خلاله هذا الموضوع الحيوي، ورغم كل شيء أضعنا سنوات وسنوات ولا تزال الحلول بعيدة لخلق مرفأ تنافسي متطور يعمل 24/24، 365 يوماً في السنة، ويساهم في تطوير الاقتصاد الوطني، لا العكس.
بدأت هذه القصة في أواخر التسعينات وبعد إلغاء الرسوم الحمائية على أغلبية السِلع، ومن ضمنها السِلع التي لها مثيل في الصناعة اللبنانية، وكنتُ حينها رئيساً لتجَمّع صناعيّي المتن وعضواً في مجلس إدارة جمعية الصناعيين اللبنانيين، وتبيّن لنا حينها أنه تمّ إلغاء الرسوم الجمركية وفي الوقت نفسه تمّ اختراع رسوم مرفأ بحَسب نوع البضاعة وليس على أساس وزنها أو حجمها، وهذه حتماً رسوم جمركية متستّرة تحت اسم رسوم مرفأ أوّلاً، هرَباً من شروط الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية التي تطلب من الأعضاء حتى لو كانوا أعضاء مراقبين، مثل لبنان، وهو عضو مراقب وما زال حتى الآن، عدمَ اللجوء إلى زيادة الرسوم الجمركية. وثانياً لتأمين دخلٍ للمرفأ بعيداً من المالية العامة وربّما بعيداً من أيّة رقابة.
ضرائب سيادية
هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضرائب، والتي لا علاقة لها بأيّة خدمة يحصل عليها المواطن، تسمّى ضرائب سيادية، وهذه من المفروض أن تكون جزءاً لا يتجزّأ من المالية العامة، وأن تدخل إلى موازنة الدولة لاسيّما وأنّنا في لبنان نعتبر أنّ مبدأ شمولية الموازنة هو مبدأ مقدّس، وكان التبشير به من السلطات الماليّة ومن وزير المالية في ذلك الوقت تبشيراً أين منه تبشير المسيحيين في أصقاع الأرض.
إعترضنا حينها على إلغاء الجمارك، واعترضنا حتماً على أغلى رسوم مرفئية على سطح المسكونة. وعندما انتُخِبتُ رئيساً لجمعية الصناعيين اللبنانيين طلبتُ من حضرة النائب حينها الصديق أكرم شهيّب ووزير التربية اليوم أن يوجّه سؤالاً إلى الحكومة عن كيفية السماح للهيئة المؤقّتة لإدارة المرفأ أن تحدّد رسوماً بحسب نوع البضاعة وبدون حتى المرور بمجلس وزراء، عِلماً أنّ القانون واضح بأنّ الضرائب السيادية لا يحدّدها إلّا مجلس النواب.
وجاء الجواب مبهَماً كالعادة يرجع إلى تاريخ عندما كان المرفأ شركة خاصة وإلى العهد العثماني، لتبرير وضع ضرائب سيادية وتسميتها رسوماً. وبالواقع أتى الجواب، كالعادة، خارجاً كلّياً عن موضوع السؤال.
تجدر الإشارة إلى أنّ شركات الملاحة ووكلاء السفن يدفعون رسوماً للمرفأ لقاء خدمات المرفأ، ويستوفونها من المستوردين أضعافاً ويُطلقون عليها أسماء وأسماء، منها إذن تسليم، أمّا المبالغ الأساسية فتسمّى F.I.O أي FREE – In – Out وهذه تزيد على الطين بلّة.
وبحَسب تقدير بعض المراقبين فإنّ معاملات مرفأ بيروت، وبغَضّ النظر عن الرسوم الجمركية، تزيد بين 2 و3% على سعر السلعة في لبنان. أليس من الأفضل زيادة الـTVA وإلغاء كلّ الرسوم المرفئية ما عدا الرسوم الحقيقية حسب كلفتها ؟ وبحَسب معلوماتنا إنّ رسوم المرفأ بلغت الى حدود 260 مليون دولار سنة 2014، و400 مليون دولار سنة 2017.
ولا نعلم حجم المبالغ التي دخلت الى ماليّة الدولة من هذه الرسوم، ومن المفروض حسب الاتفاق ان يتمّ تحويل 25% منها للخزينة اللبنانية والباقي تتصرّف به الادارة لدفع المصاريف وأعمال الصيانة والاستثمارات في المرفأ.
والمثال الافضل عن الاستثمار هو الأبنية المنشأة في حرم المرفأ، وهي بمجملها شبه فارغة الآن، وكان قد تمَّ بناؤها بمواصفات غير مقبولة أبداً.
وبالطبع نحن نعلم ذلك من خلال المبنى الذي تمّ تخصيصه كمعرض دائم للصناعة اللبنانية، وتمّ استرداده لاحقاً من إدارة المرفأ وما زال إلى يومنا هذا فارغاً لا يُستعمَل، كما تمّ التوقيع على عقود صيانة واستثمار ومشاريع وردم وتنظيف محطات كلّها من دون مناقصات، وكأنّ المرفأ ما زال تحت الوصاية العثمانية وتديره لجنة مؤقّتة تتصرّف بمئات ملايين الدولارات كما تراه مناسباً ومن دون المرور بديوان المحاسبة وإجراء مناقصات حسب الأصول.
كنتُ، ومن خلال خدمتي في وزارة السياحة في حكومتين متتاليتين، قد طرحتُ هذا الموضوع مرّات عدّة، وكان الجواب يأتي مبهَماً، وأتى الجواب من الأمانة العامة لمجلس الوزراء شبيهاً بالجواب الذي حصلنا عليه سابقاً من الحكومة، حين تقدَّم النائب شهيّب بالسؤال، فتقدّمتُ من هيئة الاستشارات بسؤال حول قانونية فَرض ضرائب من قبَل رئيس للّجنة المؤقتة لإدارة مرفأ بيروت ووزير الوصاية، ولم يأتِ الجواب. كما تقدم الوزير السابق سليم جريصاتي بدراسة قانونية حول الوضع القانوني للجنة المؤقتة، تظهر المخالفات بوضوح وصراحة.
لماذا اعتبر هذه المعركة اساسية ؟ لأننا نتكلم هنا عن مرفأ يعمل حوالى 6 ساعات يوميّاً، في حين تعمل مرافئ العالم 24 ساعة يومياً.
وباعتراف كلّ العاملين وبمحطة الحاويات بأنّ المرفأ يستطيع أن يستوعب ضعفَي حجم العمل اليوم من الحاويات والبضائع من دون الحاجة إلى ردم الحوض الرابع، وإذا عَجز مرفأ بيروت عن الاستيعاب يجب نقل بعض عمليات الاستيراد إلى مرفأ طرابلس بأسعار تنافسية، كما يجب التوقف عن تسهيل تحويل مرفأ بيروت الى كاراج للمستوعبات الفارغة بأسعار زهيدة، وأهل الاقتصاد يعرفون جيّداً أنّ نصف التأخير في أعمال مرفأ طرابلس هو من أجل أن يتمتّع مرفأ بيروت باحتكاره المخالف لكلّ القوانين المَرعيّة الإجراء وللدستور.
لأننا نتكلّم عن مرفأ لا يراعي الجدوى الاقتصادية في عملية فرض رسومه والتي يجب، كما ذكرنا، أن تمرّ بمجلس النوّاب لدرس الأثر الاقتصادي بالدرجة الأولى ومدى انعكاسه على كلّ مواطن. فالمواطن اليوم يدفع 2 أو 3% من كلّ سِلعة تكاليف مستترة لمرفأ بيروت، ألا يُعتبر هذا المبلغ كأنّه بمثابة TVA إضافية؟ والأفظع من ذلك أنّه تمّ سنة 2014، بالرغم من شبه الحصار البرّي، زيادة رسوم المرفأ، وهذا عكس كلّ التوجّه الاقتصادي المنطقي.
يجب أن ننتهي اليوم وليس غداً من اللجنة المؤقّتة لإدارة مرفأ بيروت، ويجب إعادة المرفأ إلى حضن الدولة أو استثمار المرفأ من شركات خاصة تعمل لصالح الدولة. إنّ استمرار الأمر على حاله هو انتصار الفشل على الإنتاجية، والفساد على الشفافية، والأهم اننا نضيع المزيد من الوقت بسبب عدم تحرّكنا الجدي في اي ملف أساسي.
لقد باتت شعارات الاصلاح والانتاجية لعبة فولكلورية مسلية، نحتاج الى صدمة اليوم لنخرج منها، والصدمة تكون بإجراء جذري وحازم من دون ربطه بالتلطّي وراء الطوائف والشعور بالاستهداف.