لم يشهد لبنان هذا التدفق لمسؤولين أميركيين منذ سنوات، وهذا المستوى من الاهتمام وبهذه الوتيرة المكثفة.
عشية ولادة الحكومة جاء مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل الى بيروت منتصف يناير الماضي وبحث مع المسؤولين اللبنانيين في ثلاثة مواضيع أساسية: الاستراتيجية الأميركية لتقويض دور إيران الإقليمي ومنعها من البقاء في سورية، ودور ونشاط حزب الله في لبنان، ونوعية الحكومة الجديدة التي تريد واشنطن أن تكون متوازنة ولا تريدها أن تكون حكومة حزب الله.
بعد أيام، جاء قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال جوزف فوتيل على وقع توتر في سورية بسبب الغارات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، وتوتر على الحدود الإسرائيلية- اللبنانية بسبب موضوع الأنفاق الحدودية التي ادعت إسرائيل اكتشافها.
لم يمض وقت كثير حتى وصل مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب مارشال بيلنغسلي حاملا معه جملة تحذيرات وضغوط على المسؤولين والقوى في لبنان تتعلق بأنشطة حزب الله ووضع مؤسسات بارزة مثل المطار والمصارف، وبحركة الأموال غير النظيفة ومنع عبورها عبر النظام المصرفي اللبناني ومحاصرة المجموعات الإرهابية وتجفيف مصادر تمويلها، كما وصل وفد أمني رفيع المستوى من الاستخبارات الأميركية ضم خبراء في مكافحة الإرهاب وضباطا متخصصين بالاستخبارات العسكرية للتأكيد على جدية التحرك الأميركي في هذه المرحلة.
بعد إعلان الحكومة، وفي سياق المواكبة الأميركية للملف اللبناني، برزت زيارة السفيرة الأميركية إليزابيت ريتشارد الى السرايا الحكومي مع وفد رفيع المستوى من طاقم وأركان السفارة. لم تكن فقط زيارة تهنئة بروتوكولية، وإنما كانت زيارة سياسية حملت رسالة من التحذيرات والنصائح، وأكدت الدعم المقرون بتحديد الأسس والشروط.
قبل يومين جاء نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد الى بيروت، حيث التقى مسؤولين وقيادات سياسية، وهدفت زيارته الى أمرين أساسين: الأول هو التحضير والتمهيد لزيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في أول زيارة لوزير خارجية أميركي الى لبنان في عهد دونالد ترامب ستتم في نطاق جولة ثانية له في المنطقة، والثاني هو إشعار الحكومة الجديدة أنها تحت المراقبة الأميركية، والتأكيد على المسؤولين اللبنانيين ضرورة التكيف مع السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة.
حول زيارة ساترفيلد يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1 ـ هذه الزيارة تأتي في ظل تطورات إقليمية مهمة نتيجة تصاعد حملة الضغوط التي تقودها واشنطن على إيران، انطلاقا من مؤتمر وارسو وتحت عنوان إخراج إيران عسكريا من سورية واحتواء دورها ونفوذها الإقليمي، بما يطول دور حزب الله المتنامي في المنطقة وداخل لبنان وعلى مستوى الحكومة وقرارها.
2 ـ ساترفيلد استهل زيارته بلقاء خاص ومميز مع القوات اللبنانية (وزراء القوات ومسؤولي ملف العلاقة الأميركية) بحضور السفيرين البريطاني والأميركي.
فقد درج المسؤولون الأميركيون، وخصوصا مسؤولي وزارة الخارجية، أن يستهلوا زياراتهم بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ولكن هذا «التقليد» يجري خرقه الآن، ليس فقط لأن جنبلاط لم يعد في الموقع السياسي المؤثر على مجريات الوضع وعلى المعادلة السياسية، وإنما لأن القوات هي التي تقدمت الى دور سياسي قيادي على مستوى الفريق السياسي الحليف لأميركا، وهي القوة المسيحية واللبنانية الأبرز التي تتماهى مع السياسة الأميركية في لبنان وتحافظ على تحالف مع واشنطن الى درجة أنها القوة السياسية الوحيدة التي لا علاقات لها مع روسيا ولا زيارات.
كان من اللافت أن يبدأ ساترفيلد زيارته بلقاء مع القوات اللبنانية، ليس فقط للتعرف الى وزراء القوات الجدد، وإنما للقول من خلال هذا اللقاء ان الولايات المتحدة تنظر الى القوات كونها قوة أساسية في لبنان في تأمين التوازن الوطني المطلوب، وتشكيل الضمانة على المستوى السيادي داخل الحكومة، إضافة الى أنها تشكل قوة إصلاحية أساسية يمكن الاتكاء عليها لأجل بناء دولة حديثة في مرحلة عنوانها إعادة بناء الدولة اللبنانية.
ولذلك، كان حرص من ساترفيلد على لقاء وزراء القوات للإطلاع على المشاريع التي تفكر فيها والتحديات الاقتصادية، وكيفية مقاربتها لسياسة النأي بالنفس الإقليمية ولملف النازحين السوريين.
3 ـ حصر ساترفيلد لقاءاته مع فريق من لون سياسي معين كان يسمى سابقا «فريق 14 آذار»: القوات اللبنانية، وليد جنبلاط، سامي الجميل. أما لقاؤه مع الوزير جبران باسيل، فكان بصفته وزيرا للخارجية وممثلا للرئيس ميشال عون، مع الإشارة هنا الى تحسن في أجواء العلاقة السياسية والشخصية بين باسيل ومسؤولي الخارجية الأميركية، وفي النظرة الأميركية الى باسيل و«ديناميته وواقعيته»، والتي عبر عنها ديفيد هيل في زيارته الأخيرة في مجلس خاص من خلال العشاء الذي أقامه النائب ميشال معوض في منزله.
4 ـ المحادثات التي أجراها ساترفيلد في بيروت توزعت على المحاور والملفات التالية:
٭ الإصلاحات وضرورة الإسراع فيها للحصول على مساعدات، مع التركيز على الوضعين المالي والاقتصادي وأهمية حسن إدارة المال العام.
٭ وجود حزب الله ودوره في الحكومة، لجهة التزام الحكومة حدودا مقبولة من التوازن وعدم انجرافها لمصلحة الحزب وإيران، ولجهة قدرة المسؤولين على مقاومة ضغوط حزب الله وخياراته السياسية.
٭ ملف مكافحة الفساد الذي يعصف بالدولة اللبنانية وإمكانية أن يتيح لحزب الله فرصة الخرق والنفاذ الى تحقيق غاياته.
٭ موضوع النازحين انطلاقا من أن واشنطن ليست مع المبادرة الروسية وليست مع عودة النازحين قبل الحل السياسي وإعادة الإعمار، وإن أبدت تفهما للإلحاح اللبناني على عودة آمنة وطوعية.
٭ ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والنقاط المتنازع عليها، وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة.
5 ـ الانطباعات التي خرج بها مسؤولون وسياسيون بعد لقاءاتهم مع ساترفيلد تلخص في هذه النقاط:
ـ زيارة ساترفيلد مرتبطة مباشرة بجولة بومبيو في المنطقة التي تمت على مرحلتين حاملا معه الملف الإيراني واستراتيجية تقويض دور إيران الإقليمي الذي يساهم في تقويض استقرار المنطقة.
ـ الزيارة لا تغير شيئا في ميزان القوى الداخلي وقواعد اللعبة، لكنها شددت على أمرين:
٭ الأول: أنه ليس مطلوبا من حلفاء أميركا في لبنان مواجهة حزب الله، إنما المهم عدم الإذعان لحزب الله وعدم الاستسلام له وتسليمه الدولة والبلد.
ولذلك، فإن ساترفيلد شدد على أن لا تكون الحكومة الجديدة «حكومة حزب الله» من دون أن يعير أهمية لوجود الحزب في الحكومة، فإذا كانت الحكومة ستشكل بشروط الحزب، وإذا كان سيعطى قدرة التحكم بقرارها، فمن الأفضل الاستمرار مع الحكومة القائمة وتفعيل حكومة تصريف الأعمال.
٭ الثاني: أن الأمور لم تنته لا في المنطقة ولا في سورية، بل هي مفتوحة على تطورات ومفاجآت هذا العام. والرهان الأساسي هو على متاعب جدية سيواجهها النظام الإيراني بسبب العقوبات الأميركية التي سيكون لها مفعول سلبي وقوي.
هذه المتاعب هي بالدرجة الأولى اقتصادية ومالية، وستؤدي الى قيام احتجاجات وتظاهرات شعبية تدفع إما الى تغييرات في بنية النظام وسلوكه، وإما الى عودة إيران مرغمة الى طاولة المفاوضات لاتفاق جديد مع الأميركيين.
ـ الرؤية أو الرسالة الإقليمية التي حملها ساترفيلد تفيد بالآتي:
٭ الانسحاب الأميركي من سورية لا يعني انسحابا من المنطقة.
– الانسحاب ليس انتصارا لإيران ولن يكون، وأميركا ستعمل على إخراج إيران من سورية.
– العقوبات على إيران بدأت تؤتي ثمارها ومفاعيلها تظهر ابتداء من الصيف المقبل، والعقوبات الى مزيد من التشدد والتضييق.
– أميركا في صدد بناء تحالف دولي إقليمي (عربي) ضد إيران.
– أميركا لن تسمح لحزب الله بالسيطرة على لبنان وعلى الدولة اللبنانية.
ـ تمثيل حزب الله في الحكومة شأن لبناني ولا اعتراض عليه، ولكن لا لـ «حكومة حزب الله» ويكون الحزب متحكما بها ومسيطرا عليها.
٭ محادثات ساترفيلد عكست وجود تحفظات على انطلاقة الحكومة جرى التعبير عنها بتساؤلات واستفسارات طالت: زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الى بيروت، زيارة الوزير صالح الغريب الى سورية والسجال الحكومي الذي دار على إثرها، المواقف الصادرة عن وزير الدفاع إلياس بوصعب في ميونيخ.. وكلها خطوات مقلقة بالنسبة لواشنطن ويخشى أن تكون مندرجة في سياق خطوات أكبر قد يفكر حزب الله في الذهاب إليها أو تطويرها على نحو يؤدي الى فرض وقائع لبنانية جديدة والى تجاوز خطوط حمر. ويضاف الى ذلك، نفوذ روسيا المتنامي في لبنان، حيث يبدو أن هذا التطور يزعج واشنطن إذا كان النفوذ الإيراني يقلقها.
6 ـ الزيارات الأميركية التي تتوجها زيارة مايك بومبيو بعد أسبوع، تتم في وقت يسلك لبنان وجهة روسيا وتكتمل التحضيرات لزيارة الرئيس ميشال عون الى موسكو، وهي أول زيارة الى روسيا ودولة أوروبية منذ وصوله الى سدة الرئاسة.
هذه الزيارة التي ساهم في ترتيبها وإعدادها النائب السابق أمل بوزيد، مسؤول ملف العلاقات الرئاسية مع موسكو، والتي تتم تلبية لدعوة رسمية، سيكون جدول أعمالها حافلا.
وإضافة الى العلاقات الثنائية والملفات الاقتصادية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، سيتم التركيز على ملف النازحين السوريين نظرا للدور الاستثنائي الذي تضطلع به روسيا في هذا الملف الذي يوليه الرئيس عون عناية خاصة، وهو ماض في معركة إعادتهم حتى النهاية.
وكان لبنان أول دولة معنية بالنزوح أيدت المبادرة الروسية لإعادة النازحين وسمت ممثليها في اللجنة الخاصة اللبنانيةـ الروسية المشتركة التي مازالت تنتظر عوامل عدة لانطلاق العمل بها.