كتب محمد نزال في صحيفة “الأخبار”:
لم تُمطِر السماء، طوال يوم أمس، إلا عندما احتشدوا للاعتصام. لم يكن لديهم مظلّات. يبدو أنّ على اللاجئين السودانيين، في لبنان، أن يضيفوا السماء إلى لائحة معاناتهم. رفعوا لافتاتهم، أمام مقرّ مفوضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في بيروت، وفيها بعض مطالبهم: إعادة التوطين، فتح الملفات المغلقة، لا للاعتقالات التعسفيّة… ولافتات أخرى بالإنكليزيّة «حتّى يسمع العالم كلّه». دول العالم «العظمى» التي شاركت بجعلهم لاجئين، بفعل سياساتها تجاه بلادهم، تبخل عليهم بأن تفتح أمامهم أبوابها. بخلت سابقاً والآن تبخل أكثر. كانت الأمور أسهل قبل سنوات، قبل «الترامبيّة» الدوليّة، والآن مع تفشّي نبرة «الغريب» بات الأمر أقرب إلى المستحيل. ليست هذه جولة الاحتجاج الأولى للاجئين السودانيين في لبنان. واكبنا هذا المسلسل على مدى سنوات. هم عالقون في لبنان، ليس حبّاً بهذه البلاد، إنّما لكونها أرض «ترانزيت» فقط، إذ لا لجوء بالمعنى القانوني لديها، وهم ينتظرون إيفاء «الأمم المتحّدة» بوعودها لهم: نقلهم إلى بلد ثالث. ليس أمامهم إلا أن ينتظروا. بعضهم ما زال ينتظر منذ نحو 20 عاماً. إبراهيم أحد هؤلاء. باتت لكنته لبنانيّة بامتياز. لو كان في بلاد أخرى لربما نال الجنسيّة. هم يعرفون أن لا تجنيس في لبنان، فضلاً عن لا لجوء، ولهذا يظنّون أن المفوّضيّة الدوليّة تكذب عليهم. يتوجّه مهند، حاملاً لافتته، إلى وزير الخارجيّة جبران باسيل: «نعرف لبنان تماماً، ولكن الغريب أن المفوضيّة أخيراً وعدت بعضنا بالتوطين في لبنان، في حين كنّا ننتظر أن تنقلنا إلى بلد ثالث. أسأل باسيل: هل هذا صحيح، أمّ أنّ المفوضيّة تكذب علينا؟». هؤلاء يعيشون يوميّاتهم بـ«الخفاء» على الأراضي اللبنانيّة. إنّهم بالآلاف. كلّ واحد فيهم يحتمل، في ظلّ وضعه غير القانوني، لناحية عدم وجود إقامة وبانتظار البتّ في ملفّ لجوئه، أن تلقي القوى الأمنيّة القبض عليه. أكثرهم عاش هذه التجربة. حكايات ما يتعرّضون له مِن إذلال كثيرة. بعضهم، وإثر توقيفهم، تتدخّل «المفوضيّة» لإخراجهم مِن السجن، كون لديهم ملّفات لم يبّت بها بعد، ثم يعودون لممارسة الانتتظار بالخفاء… إلى أن يُلقى القبض عليهم مُجدّداً. هذه هي دورة حياتهم هنا. أكثر مِن معتصم، أمس، كانوا يحملون أطفالهم. بعضهم يحصل على مساعدات معيشيّة قليلة مِن «المفوضيّة» المذكورة، فيما بعضهم الآخر لا يحصل على شيء، فكيف يعيش هؤلاء؟ بالمناسبة، اللاجئون السودانيّون في لبنان هم مِن أكثر اللاجئين «سلميّة». نادراً ما تسمع عن ارتكابهم جرائم سرقة، مثلاً، أو أيّ جرائم أخرى. بيانات القوى الأمنيّة تؤكّد ذلك.
لا جديد في اعتصام هؤلاء أمس، باستثناء أن بلادهم، اليوم، تمرّ بأزمة سياسيّة تزيد مِن تعقيد الأمور، إضافة إلى جديد آخر هو ما نقله أكثر مِن معتصم: وعد المفوضيّة لهم بالتوطين في لبنان. ربّما على وزارة الخارجيّة في لبنان، أو الأمن العام، التواصل مع «المفوّضيّة» وكذلك مع طالبي اللجوء، وفتح تحقيق في هذه المسألة لمعرفة ما يجري. هل ثمة ما يُطبخ دوليّاً في هذا الملف؟ الأكيد أن الذين اعتصموا، أمس، لا يودّون البقاء في لبنان، ولا يريدون إلا «الصرفة». أحدهم يقول: «اللبناني ما مرتاح بلبنان، فكيف نحن؟». حاولت «الأخبار» التواصل مع «المفوضيّة» لمعرفة ما يجري، فجاءنا شخص اسمه حسام الشامي، ووعد بالاتصال بعد أخذ رقم الهاتف. لم يحصل الاتصال. هكذا، يقفل «العالم الحرّ» أبوابه أمام لاجئي السودان، بعد المشاركة في نهب ثروات تلك البلاد، وعلى مدى قرون، لتُحال أخيراً المشكلة إلى دول صغيرة هي أصلاً غارقة في مشاكلها. يحصل هذا حاليّاً في فنزويلا، مثلاً، حيث تفرض الولايات المتّحدة عقوبات تجويعيّة عليها، ثم عندما يحاول بعض اللاجئين دخول أراضيها عبر بلاد أخرى، لفرصة عيش أفضل، ترفع البنادق في وجوههم وتقفل الحدود. شيء مِن هذا القبيل يحصل في ملّف اللاجئين على الأراضي اللبنانيّة.