كتب عيسى يحيى في “الجمهورية”:
إنه أسطورة من أساطير بعلبك الأثرية المنسيّة، عمره من عمر المدينة الزاخرة بالآثار والشاهدة على حقبات تاريخية مرت عليها، رسمت خلالها معالم حُفرت في ذاكرة التاريخ، ورُسمت في أذهان اللبنانيين لتبقى الصورة الأوضح والأنصع عن المدينة، بعد أن عبثت بها أيادٍ سوداء حوّلتها عن وجهتها وشخصيتها.
على أطراف حي الشراونة في بعلبك، ذلك الحي الذي إرتبط إسمه مراراً وتكراراً بالأحداث الأمنية في المدينة، وبالحرمان والفقر أيضاً، يقع «مغرّ الطحين» الأثري المكوّن منذ آلاف السنين، ويعود إسم «المغرّ» إلى التسمية التي أطلقها سكان الحي على هذا المكان، وذلك لنوعية الصخور الكلسية البيضاء التي تتكوّن منها كهوف «المغرّ» والتي تشبه دقيق القمح عند تفتتها.
موقع «المغرّ» البعيد من قلعة بعلبك الأثرية حوالى الكيلومترين يدل على أنّ تلك الأرض كانت مأهولة منذ آلاف السنين حيث كانت تُعرف قديماً بالقرى الصوانية، وهي عبارة عن عشرات المغاور والكهوف المتداخلة فيما بينها بسراديب وأبواب وفق أنماط هندسية مختلفة: مربعة، مستطيلة، دائرية.
أنفاق «المغرّ» التي تصل إلى أعماق تتعدى المئتي متر وتكاوينه الصخرية والمقالع الحجرية التي إستُخرجت منها الحجارة من باطن الأرض، إضافةً إلى البيوت الحجرية المحفورة والمدافن، والمنحوتات الرومانية الظاهرة على بعض فتوحات «المغرّ» تشير إلى عمر هذا المعلم الأثري الذي عمره من عمر قلعة بعلبك وأكثر.
تلك الفتحات التي تقول الروايات بأنها ترتبط بمعالم أثرية أخرى تمتد لتصل إلى القلعة ومقلع الكيال الصخري الذي استُخرجت منه حجارة القلعة واصبح اليوم مطمراً للنفايات، كله يدل على الإمتداد التاريخي لهذا الموقع المتماهي مع تاريخ المدينة وحضارتها التي شكلت إرثاً ثقافياً مميّزاً لا يعكس أبداً مشروع الإرث الثقافي الذي نُفِّذ في المدينة واستهدف مواقع محددة واستفاد منه أشخاص محددون تولّوا أعمال الترميم، فيما غاب عن المشروع ذلك الموقع المميّز، ناهيك عن الطريقة التي نُفّذت بها أعمال الترميم والتي طالت عدداً من المنازل الترابية المحيطة بالقلعة والمهدَّدة بالسقوط بفعل العشوائية في التنفيذ وقلة الخبرة كما حدث خلال ترميم قلعة بعلبك.
عشرات السنين من الفوضى والإهمال طالت ذلك المعلم الأثري، وهي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق أهالي الحيّ القاطنين حوله، وعلى البلديات المتعاقبة في بعلبك التي لم تعطِ أيَّ إهتمام لهذا المكان، وغياب الرؤية السياحية التي تفتقدها المدينة الغنية بالأثار والتي لو استُثمرت بالشكل الصحيح لأنعشت المدينة ووفّرت للدولة مردوداً لا بأس به.
تعود ملكية العقار الواقع عليه «المغرّ» إلى الدولة اللبنانية فيما تعود ملكية العقارات المحيطة به إلى المواطنين الذين شيّدوا منازلهم على سفحه وحوله بطريقة عشوائية كما هو حال معظم المناطق اللبنانية، وبدأت معها أعمال التعدّيات على الموقع وتلويثه والعبث به، وهنا لا يمكن تحميل الناس وحدهم مسؤولية الخلل الحاصل، فغياب دور المديرية العامة للآثار وإهتمامها المفقود بالموقع، ووقف التعدّيات عنه، يلعب دوراً بارزاً في سوء إدارة وتأهيل هذا المعلم الأثري ووضعه على خريطة بعلبك ولبنان السياحية.
وفي عمليات البحث عن المجهول وكنوز قد خبّئت في سراديب «مغرّ الطحين» إكتشف أهالي الحيّ أنفاقه المحفورة في الصخر والممتدّة لمئات الأمتار والمتفرّعة إلى أماكن أخرى بحسب الروايات وتصل إلى تلة الشيخ عبد الله المطلة على القلعة ووداي الشعب شرقاً حيث كان هناك مقلع يزوّد القلعة بالحجارة.
واعتمد الأهالي المكان مركزاً لتخبئة أعلاف الحيوانات ومأوىً لها أيضاً، فيما وُجِّهت أنابيب الصرف الصحي للمنازل المجاورة إلى داخله على مدى سنين، ولأنّ الكهوف كانت مأوى لشعوب وطأت تلك الأرض، كان «المغرّ» أيضاً مأوى لأهالي الحيّ خلال عدوان تموز 2006.
غياب التمويل اللازم لرفع التعديات والبدء بعملية التنظيف والترميم للموقع كان العائق أمام بلدية بعلبك وفق مصادرها كل تلك السنوات الماضية، ومنذ أيام بدأت البلدية عملية التنظيف وإزالة التعديات عن الموقع ليصبح معلماً أثرياً يوازي في أهميته قلعة المدينة، وفي هذا الإطار يقول مصطفى الشل عضو مجلس بلدية بعلبك لـ«الجمهورية» إنّ المشروع بتمويل من منظمة الأمم المتحدة للتجمّعات البشرية، حيث يهدف إلى إزالة التلوّث عن «مغرّ الطحين» كونه مركزاً أثريّاً قديماً جداً وربطها ببعضها البعض وإزالة الشوائب عنها بسبب التعديات التي حصلت عليها على مرّ الزمن والتي أصبحت منطقة سكنية كثيفة وبطريقة عشوائية، حوّلت «المغرّ» إلى مناطق صرف صحّي.
وبالتعاون بين المنظمة والبلدية تمّ تلزيم المشروع إلى شركة متخصصة بكلفة 190 ألف دولار على مرحلة واحدة، حيث يتضمّن إزالة الصرف الصحي وتمديد صرف صحي للمنازل وربطها بالشبكة العامة، وإعادة تنظيف «المغرّ» بالكامل، وتنظيف الحجر، وتحسين محيطه من خلال ترميم المنازل المحيطة وطلائها، وأضاف أنّ مدة المشروع بين 3 و5 أشهر، كذلك هناك خطة لإنارة «المغرّ» وربطه بآثار بعلبك وتنظيم زيارات إليه ليصبح معلماً أثرياً.
ليس بالأمن وحده تحيا منطقة بعلبك، فهي بحاجة إلى تضافر الجهود وإبراز مقوّماتها السياحية التي تضعها على الخريطة، وتنعش حال أهلها، وتنفض عنها الأمن المهزوز وتعود إلى حضن الدولة وتعود الدولة إليها من بوابة فرض الأمن لإنعاش السياحة.