كتب د.مصطفى علوش في صحيفة “الجمهورية”:
“إنّ أسوأ مراتب الجحيم مرصودة لمَن يلتزمون الحياد في الأمور ذات الطابع الأخلاقي” (دانتي)
قد يمرّ اليوم نهار الرابع عشر من آذار مرور الكرام، فالبشر مطبوعون على النسيان، وقد يكون النسيان أحدَ أهم وسائل حلّ الأزمات التي لا حلّ لها، وقد يكون أيضاً وسيلة للخروج من الإكتئاب واليأس من تحقيق الآمال. لكنّ يوم ١٤ آذار ٢٠٠٥، بتقدير الجميع، لم يكن يوماً عادياً في تاريخ هذا الكيان المشتّت بين نزوات الأفراد والعشائر والطوائف.
للمرة الأولى في تاريخنا اجتمعنا بغضب واحد وندم واحد وأمل واحد، ولو كان للأحاسيس، قياس كما يقول بعض علماء المشاعر الإنسانية، لكان قياس هذه الطاقة فاق كل التوقعات وهزّ العالم.
الغضب يومها كان على القاتل، ليس لأنه أصاب رفيق الحريري فقط، ولكنه غضب كل فرد فقد عزيزاً أو صديقاً أو قريباً أو منزلاً أو رزقاً أو فسحة أمل بسبب القاتل ذاته.
والندم كان على خطايانا في قبولنا أن نُستفرد ونتفرّق في حروبنا ونكدنا ونكاياتنا لبعضنا البعض، وفي خدمتنا لمشاريع القاتل، مع علمنا أننا قد نكون ضحيته التالية، وأحياناً حتى بعد أن نمرَّ في تجربة كوننا ضحية.
والأمل كان أننا منذ ذاك اليوم العظيم خرجنا من معمودية الدم متحررين من خطيئتنا الأصلية، وأصبح الكيان الإفتراضي وطناً للجميع نعيش فيه كمواطنين أفراد لا كرعايا طوائف ولا أتباعاً لزعيم عشيرة ولا ميليشيات يقودها مجرم حرب.
لم يمضِ وقت طويل بعد ذلك اليوم العظيم حتى بدأ مسلسل الخروج، زرافاتٍ ووحداناً من الحلم والأمل باستمرار مفاعيل هذا اليوم، وأصبح ١٤ آذار مجرد إسم لقبيلة سياسية، لم يتورّع البعض حتى عن مساواتها بقبيلة الثامن من آذار بكل ما للثامن من آذار من مفاعيل عبودية للشر وخضوع للشرير لشكره على شروره ودعوته للمزيد!
يعني أنه بالنسبة للكثيرين، عن معرفة أو جهل، أنّ أتباع الثامن من آذار الذين تجمعوا لشكر نظام الأسد ولدعمه، وربما دعوته للإستمرار في احتلاله للبنان، هم يشبهون مواطني ١٤ آذار الذين تجمعوا لإنهاء الإحتلال. ويعني أيضاً مساواة الضحية بأتباع الجلاد!
فأصبح مَن يؤيد سلاح الميليشيات، مثله مثل مَن يريد حصر السلاح في يد الدولة. وأصبح مَن يريد استمرار لبنان بكونه ساحة دمار وحرب، يشبه مَن يسعى إلى السلام والإستقرار.
وأصبح مَن يفجّر ويقتل ويجتاح ويهدد، مثل مَن يسعى للعدالة ويحتمي بالقانون. وأصبح أتباع جزار صيدنايا، مثل الساعين إلى الحرية لكل البشر.
وأصبح مَن يضرب المؤسسات الديموقراطية، مثل مَن يقول إنّ الحكم هو لصناديق الإقتراع.
وأصبح مَن يشوّه صورة البلد مثل مَن يسعى إلى تجميله…
أمثلة كثيرة قد نقضي ساعات في تعدادها، ولكن الموجع هو أنّ الكثيرين من السياسيين وقادة الرأي العام، وهم مؤمنون بأحقية رؤيا ١٤ آذار، انهزموا جبناً وخوفاً على حياتهم، أو سلطتهم، فجنحوا إلى إدّعاء بالوسطية والحياد، أو تحولوا إلى انتهازيين يسعون إلى رضى القاتل بهم في منصب ما، قائلين ما اصبح تقليداً اليوم «نحن على الحياد» ويدّعون الإعتدال، أو أن يقولوا «الإثنان خربا لبنان» لمجرد التبرُّؤ من «دم الصديق».
بسبب كل ذلك اقول اليوم في عيد ١٤ آذار الرابع عشر بأنني فخور بكوني جزءاً من هذه الرؤيا وبأنني بتحزّبي للرابع عشر من آذار مع ثلة من اللبنانيين الأحرار أكون مع الحرية والسيادة والاستقلال والاستقرار والأمل، وأنا مع ١٤ آذار وفاءَ لمَن سقطوا على الطريق بيد القاتل.
أنا لستُ حيادياً، فلا مجال لوباء الوسطية بين الحق والباطل، بين الضحية والقاتل، بين العدل والظلم، بين الدولة والقبيلة، بين الوطن والطائفة… لكلِّ ذلك أنا 14 آذار اليوم المجيد في تاريخنا.