كتب علي الأمين في صحيفة “العرب اللندنية”:
مساعد وزير الخارجية الأميركية دايفيد ساترفيلد غادر بيروت، بعد إنجاز مهمة اتسمت بتحذير الحكومة اللبنانية من معاونة حزب الله على الالتفاف على العقوبات الأميركية، حيث جدّد خلال لقاءاته بالمسؤولين اللبنانيين على أن واشنطن تراقب نشاط حزب الله في الحكومة، وهي لن تتهاون في شأن العقوبات التي قال إنها ستتصاعد في المرحلة المقبلة ضد الحزب، ورغم تأكيده على أن العقوبات هي حصرا على حزب الله، وليس هدف واشنطن الإضرار بالدولة اللبنانية بل بترسيخ وجودها، فقد قال إن ذلك يتطلب عدم السماح لحزب الله باستغلال وجوده داخل المؤسسات الشرعية للالتفاف على العقوبات.
زيارة ساترفيلد إلى بيروت تمهد لزيارة مرتقبة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى بيروت في سياق جولة شرق أوسطية يُتوقع حصولها منتصف الشهر الحالي، وهي الزيارة التي يرجح أن يحمل فيها الزائر الأميركي المزيد من التحذيرات للحكومة اللبنانية من السياسة التي تعتبرها واشنطن عنصر تغطية لدور حزب الله الأمني والعسكري في لبنان وخارجه، ولعل أهم مقدمات الرسائل الأميركية تجاه المسؤولين اللبنانيين ذات الدلالة، هي أن ساترفيلد تقصّد على ما تشير المعلومات عدم زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وهما الحليفان الأقرب إلى حزب الله رغم العلاقة الباردة المثقلة بالريبة المتبادلة بينهما، أي عون وبري.
المسؤول الأميركي على غير عادة الزائرين الأميركيين الرسميين إلى لبنان، لم يطلب لقاء رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب، ورغم أن المصادر الرسمية أشارت في شأن الرئيس بري إلى أنه كان في زيارة رسمية إلى الأردن خلال زيارة ساترفيلد، إلا أنّ وجود الأخير في بيروت استمر إلى ما بعد عودة بري من الأردن، ورغم ذلك لم يجر أيّ لقاء بين الرجلين.
عدم اللقاء لم يكن عفويا ولم تمنع حصوله عوائق لوجستية، بل لم يجر المسؤول الأميركي أي اتصال لتأمين موعد للقاء أي من الرئيسين، واكتفى بلقاء رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، إلى جانب لقاءات غير رسمية مع جهات سياسية مما كان يسمى قوى 14 آذار.
وفي قراءة سياسية لهذه الخطوة غير المسبوقة في زيارات المسؤولين السياسيين الأميركيين إلى لبنان طيلة السنوات الماضية، فإن استثناء ساترفيلد لرئيسي الجمهورية والنواب من جولته، يندرج في إطار الرسائل الجدية التي باتت واشنطن حريصة أن تصل إلى المسؤولين اللبنانيين بقوة.
فواشنطن التي طالما حذرت الحكومة اللبنانية من تصاعد نفوذ حزب الله الأمني والعسكري، لم تقم بخطوات عقابية محرجة للدولة اللبنانية، بل ركزت في عقوباتها على استهداف حزب الله مباشرة.
وفي الإشارة الأخيرة ما يدل على أن واشنطن ترفع من سقف التحذيرات، وتلوّح بأن تنفيذ قانون العقوبات الصادر عن الكونغرس ضد حزب الله، سينتقل إلى مرحلة تنفيذ عقوبات على حلفاء حزب الله، لذا فإن الرئيسين عون وبري هما من أقرب الحلفاء لحزب الله كما يؤكد حسن نصرالله نفسه، الذي طالما أشاد بدور الرئيس ميشال عون كداعم لدور الحزب الأمني والعسكري، وطالما تغنى بالتحالف الوثيق مع الرئيس نبيه بري وحركة أمل التي يرأسها.
مهّد ساترفيلد على طريقته لزيارة وزير الخارجية الأميركي، وأعلن بوضوح أنّ مسار العقوبات على إيران وحزب الله مستمر وسيتصاعد في المرحلة المقبلة، ومن المرجح أن يلتقي بومبيو رئيسي الجمهورية ومجلس النواب في جولته، لكنها هذه المرة فهي مسبوقة بالرسالة التي وجهها مساعده، بأن موضوع دور حزب الله ونفوذه، ليس أمراً قابلا للتغاضي من قبل الإدارة الأميركية، بل سيكون عنوانا رئيسا للسياسة الأميركية في لبنان والمنطقة.
هذه الرسائل الأميركية إلى لبنان وحزب الله، لم يقابلها الحزب بخطاب تصعيدي أو تهديدي ضدّ الأميركيين والإسرائيليين، كما كان الحال في سنوات سابقة، إذ يمكن أن يلاحظ اللبنانيون أن لا تظاهرات احتجاجية تجري أمام السفارة الأميركية، طالما كان حزب الله ينظمها عند صدور أي قرار أميركي يتصل به أو بقضايا إقليمية تهمه، ولا شعارات في بيروت اليوم تدعو إلى “الموت لأميركا”، ولا أفلام مصورة لحرق العلم الأميركي، ولا أي مظهر احتجاجي على ما قامت به بريطانيا بإدراج جناح حزب الله السياسي، كما تسميه، على لائحة الإرهاب، بعد أن كانت أدرجت مع الدول الأوروبية جناحه العسكري على لائحة الإرهاب.
عدم حصول أي احتجاجات في الشارع أو مهرجانات منددة بالقرارات الأميركية أو البريطانية، أمر يجب التوقف عنده، وهو لا يتناغم مع الطريقة التي كان يعتمدها حزب الله في مواجهة مثل هذه الخطوات.
كما لم يذهب أمين عام حزب الله بعد كل هذه الرسائل الشديدة إلى التهديد والوعيد، كان شديد الهدوء حيال النوايا العدوانية من قبل واشنطن وبريطانيا، واكتفى بالقول “إننا أقوياء ومظلومون”، وحضّر جمهور الحزب لعقوبات جديدة وقال إن “أياما صعبة ستمر علينا” وأن دولاً أخرى ستدرج حزب الله على لائحة الإرهاب والعقوبات.
ولكن نصرالله الذي يعاني من تزايد الضغوط الدولية على حزبه، وبات شديد الحذر في توجيه التهديد لـ“الشيطان الأكبر” ولـ“المستكبرين” في العالم وحتى لإسرائيل التي تحتل مزارع شبعا اللبنانية، صبّ جام غضبه على “الفساد في لبنان”، في خطوة غير مسبوقة أيضا تشبه “التهذيب” غير المعهود حيال تهديدات “الاستكبار العالمي” وعقوباته.
أولا، حزب الله منذ نشأته حتى اليوم لم يضع في برنامجه أولوية بناء الدولة أو ترميمها، وطالما كان يعتبر أن تحرير الأرض والمقاومة ضد المحتل وضد التكفيريين هي مهمته، لكنه اليوم يقول إنه يريد أن يطهر البلد من الفساد والمفسدين، وهي مقولة لا يمكن أن تقنع اللبنانيين، فحزب الله لم يكن يوما خارج دائرة الفساد والإفساد، فهو مشروع قام ويقوم على ثنائية الدولة – الدويلة.
ضعف الدولة كان ولا يزال شرط نفوذه وتمدده، وطالما أنه كذلك فإن الفساد في الدولة وضعفها، سيظل هدفا واجب التحقق لاستمراره كذراع إيرانية في لبنان والمنطقة.
ثانياً، الرسالة التي أطلقها لإظهار اهتمامه بمحاربة الفساد، جرى توجيهها لأشد خصومه السياسيين رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، الذي كانت حكومته وراء تأسيس المحكمة الخاصة باغتيال رفيق الحريري، ووراء صدور القرار 1701، والذي بقي متمسكا بموقفه حيال سلاح حزب الله والعديد من القضايا التي تتصل بسيادة الدولة واستقلاليتها.
استهداف السنيورة من قبل حزب الله في ملف الفساد، هو رسالة مفادها أن الكيدية السياسية هي التي تحرك حزب الله، إذا سلمنا بنواياه الإصلاحية، وهي محاولة لتقويض أي مشروع جدي للإصلاح من خلال الدفع بالسجال اللبناني في هذا الشأن نحو متاهات طائفية ومذهبية، ولو كانت النوايا صادقة لكان حزب الله بدأ بفتح ملف مفسدين من مؤيديه أو من حلفائه وهم كثر، فبذلك كان الجميع سيصدق أنه جاد، أما أن يختار أشد خصومه السياسيين ليتهمه بالفساد فهذا ما لا يمكن أن يكون اختياراً غايته الإصلاح.
الجدل حول الفساد والإصلاح يراد له أن يملأ الإرجاء اللبنانية، ولكن من دون مكافحة حقيقية أو معالجة جديّة له، فغاية الجدل أن حزب الله الذي يقف عاجزاً ومربكاً حيال العقوبات الأميركية والغربية، يريد أن يستعرض قوته في الداخل اللبناني، فيداوي ضعفه تجاه الخارج بمزيد من الاستقواء في الداخل، شأن الأنظمة الأمنية والدكتاتورية التي يعرفها الجميع.