كتب رياض طبارة في صحيفة “الجمهورية”:
زيارة الرئيس بشار الأسد لطهران مطلع الشهر الحالي تسبّبت باستقالة وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، بسبب عدم دعوته الى الاجتماع بين الأسد والمرشد الأعلى علي خامنئي.
لا شك أنّ سبب الاستقالة، رغم جديّته، لم يكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. السبب الأعمق كان الخط السياسي الذي اتّبعه «المعتدلون» في إيران تجاه أميركا، على رأسهم الرئيس حسن روحاني، بينما كان ظريف، رأس حربة هذا الخط، بل منظّره الرئيسي.
القصة بدأت مع الرئيس باراك أوباما وسياسته الشرق أوسطية. وكان يعتبر انّ الأنظمة العربية الرئيسة ليست موضعَ ثقة، وغير جديرة بتحالف الولايات المتحدة معها. ففي خطاب ألقاه في مدينة شيكاغو سنة 2002، حيث كان سياسياً محلياً، قال إنّ «ما يُسمى حلفاءنا» من العرب يظلمون شعوبهم ويتركونهم من دون تعليم ما يجعل شبابهم حاضرين للتجنيد. وظلّ على هذا المعتقد خلال تولّيه الرئاسة.
بالمقابل، كان أوباما يعتبر أنّ عودة التحالف مع إيران، كما في أيام الشاه، أي قبل الثورة الإسلامية سنة 1979، هي الحل لمشكلات الشرق، لذا يجب العمل على دفع المعتدلين في إيران الى أخذ زمام الحكم فيها لكي تتم هذه الشراكة الأميركية ـ الإيرانية. لهذا أصر على توقيع الاتفاق النووي سنة 2015 على أساس أنه سيساعد المعتدلين للفوز بالانتخابات.
ونجح المعتدلون سنة 2017، لكن الاقتصاد الإيراني لم ينهض بشكل ملحوظ وظلّ المتشددون أقوياء سياسياً. في تلك السنة تمّ انتخاب دونالد ترامب رئيساً وقد انسحب من الاتفاق النووي وأعاد العقوبات التي توقف العمل بها بسبب الاتفاق، وأضاف اليها أخرى، ما جعل الاقتصاد الإيراني يتراجع بشكل حاد. فالريال الإيراني الذي كان على مستوى 32000 للدولار عندما وُقّع الاتفاق النووي، تراجع مباشرة ليصل اليوم الى ما يقارب الـ 140 ألفاً للدولار الواحد (بسعر السوق). وارتفع تضخّم الأسعار فوصل بعض السلع الأساسية، كالأرز مثلاً، الى أكثر من 230 بالمئة سنوياً. وقد حذّر روحاني أخيراً من أنّ إيران تواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ 40 عاماً، أي منذ الثورة الإسلامية الإيرانية.
حاولت إيران حماية تجارتها الخارجية رغم العقوبات الأميركية بالاتكال على روسيا والصين وأوروبا. فنجحت مع روسيا والصين بالتعامل بالعملات المحلية، ولكنّ مستوى التعامل انخفض جداً. أما أوروبا فأسّست أداة مالية تعتمد مبدأ المقايضة بين إيران والدول الأوروبية ولكن هذه الآلية تشمل حالياً فقط تبادل السلع الإنسانية كالأكل، والدواء والتجهيزات الطبية ولن تشكل بديلاً للتعامل بالدولار حتى لو وسعت قائمة السلع المتعامل بها (والتي قد تضعها بمرمى العقوبات الأميركية).
هذا المأزق الاقتصادي الإيراني أشعل الخلافات الداخلية بقيادة المتشدّدين. وقع اللوم طبعاً على المعتدلين الذين اتُهموا بتبني فكر أوباما وأقنعوا به المرشد الأعلى. بدأت تحركات شعبية، وأعضاء في البرلمان الإيراني راحوا يطالبون بتنحّي الرئيس روحاني عن الحكم. وبالطبع نال القسط الأكبر من اللوم مهندس ومنظّر الانفتاح على أميركا محمد جواد ظريف الذي قال عند استقالته: «لم يتمكّن الطرف الآخر من إرهاقي خلال المفاوضات (…) لكن الضغوط الداخلية أنهكتني خلال المحادثات وبعدها». ووصف الخلافات الداخلية بـ«السمّ القاتل».
ويقول ترامب إنه سيضاعف العقوبات على إيران، لكي تأتي الى طاولة المفاوضات وتوقّع اتفاقاً جديداً يجعلها تتخلّى نهائياً عن برنامجها النووي، ويحجّم برنامجها الصاروخي، ويضع حدّاً لتدخلاتها في المنطقة ومساندتها للميليشيات المتحالفة معها. وقلبت إدارة ترامب رؤية أوباما رأساً على عقب لاقتناعها بأنّ تسليم المنطقة للهيمنة الإيرانية سينتهي بحرب أهلية بين السنّة والشيعة بدلاً من الاستقرار المطلوب. وتعتقد إدارة ترامب بأنّ الحل هو بتحييد إيران واستبدالها بتحالف مع القوى السنية، على رأسها السعودية.
إيران لا تريد التفاوض مع الولايات المتحدة بشروط الأخيرة رغم ضائقتها الاقتصادية. السبب الأول هو أن لديها شك بأن هدف أميركا الرئيسي هو تغيير النظام في إيران. جون بولتون، مستشار الامن القومي الأميركي، دعا علناً، قبل تعيينه، إلى قصف طهران بالقنابل للوصول الى هذا الهدف، وبومبيو دعا، قبل تعيينه وزيراً للخارجية، الى تغيير النظام من خلال وكالة الاستخبارات الأميركية. الأهم هو أنّ اميركا، كما أظهرت في مفاوضاتها الحالية مع كوريا الشمالية، لن تقبل برفع العقوبات عن إيران قبل أن تكون قد ألغت دورها ودور الميليشيات المتحالفة معها في المنطقة، ما ترفضه طهران.
المرحلة المقبلة هي إذاً مرحلة مواجهة إقتصادية ودبلوماسية لا مواجهة عسكرية يرفضها الطرفان. الجهتان ستضعان شروطاً تعجيزية لأي ّمفاوضات محتملة بينهما، أميركا بانتظار تأثير عقوباتها التي لن تستطيع أن تتحملها إيران، وإيران بانتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة وفشل ترامب في إعادة انتخابه.
أما في لبنان فالعقوبات الأميركية التي تهدف لتجفيف مصادر تمويل «حزب الله» ستحاول أن تتفادى، كما في الماضي، أي تأثير كبير على اقتصاد لبنان أو على نظامه المصرفي، ما دام يطبّق التعليمات المالية الأميركية ولا يسمح لـ»الحزب» باستعمال نظامه المصرفي أو موقعه الحكومي لتبييض أمواله أو زيادة مداخيله، وهذا ما كثف الحراك الأميركي في لبنان اخيراً.
«الحزب» بدأ يشعر بالضائقة المالية باعتراف أمينه العام السيد حسن نصر الله الذي طالب مؤيّدي الحزب بالتبرع للمقاومة («جهاد المال») كما بالصبر على هذه الضائقة. أميركا تحاول أن توسع ضغطها على الحزب من خلال حثّ الأوروبيين على عدم الفصل بين شقّيه، السياسي والعسكري.
لذلك، ورغم النجاح الأميركي بالماضي في الفصل بين العقوبات الموجهة للحزب والاقتصاد اللبناني، أصبح الأمر اليوم أكثر صعوبة. فضائقة الحزب المالية الناتجة عن تجفيف بعض مصادر تمويله لا بد وأن تؤثر على الأموال التي تدخل الى لبنان من خلاله، والاشتراك المحتمل لأوروبا في اعتبار شقّي الحزب إرهابيَّين سيعقّد تعامل الدول الغربية مع أعضاء في الحكومة تابعين للحزب، ما سيؤثر بالضرورة على عمل وزاراتهم (كزيارة الوزراء للخارج) وعلى المساعدات لعمل هذه الوزارات.