كتب وليد شرارة في صحيفة “الاخبار”:
حتى وقوع مجزرة مسجدَي مدينة كرايستشرش، كانت نيوزيلندا في خيال العديد منّا بلد المراعي الخضراء والحياة الهانئة، البعيدة عن حروب العالم وضوضائه.
كثيراً ما ننسى أن هذا العالم قد أضحى، بفضل ثورة المعلومات والشبكات الرقمية، المُسماة بلادة اجتماعية، قرية صغيرة بحسب المتفائلين المغفلين، أو ساحة حرب خشنة وفقاً للمتشائمين، أي المتفائلين المطلعين على وقائعه الفعلية وخلفياتها. السفّاح الفاشي الأوسترالي برينتون تارانت، مرتكب المجزرة، كان قد نشر على «تويتر»، صباح يوم الجمعة، بياناً من 74 صفحة بعنوان «الاستبدال الكبير» يشرح فيه دوافع فعلته. وقد سبق لأحد المنظّرين البارزين لليمين المتطرف الفرنسي، رونو كامو، أن اختار عنوان «الاستبدال الكبير» لكتابه الصادر عام 2011، والذي يروج فيه لنظرية حلول أعداد متعاظمة من المهاجرين غير الأوروبيين، بفعل «تدفقهم» إلى أوروبا، ومعدلات خصوبتهم العالية، وما يراه تواطؤاً معهم من السلطات المحلية، في مكان السكان «الأصليين» البيض «المنقرضين».
سارعت أوساط متنوعة، تضمّ إلى اليمين المتطرف السياسي والثقافي خبراء ومفكرين وفلاسفة وإعلاميين محسوبين على يمين أو يسار الوسط، إلى تبنٍّ جزئي أو كلي لنظرية المؤامرة هذه، على الرغم من تناقضها الفاضح مع المعطيات والأرقام الصادرة عن جهات ذات صدقية عن المهاجرين وأوضاعهم في البلدان الأوروبية. يشي هذا التبني بتحول تيارات فكرية وسياسية بعينها في الغرب إلى مقاولي هوية، تخترع تهديداً وجودياً خرافياً لشعوب الغرب، لتحقيق مآرب سياسية داخلية واستراتيجية خارجية. وهي تتحمل مسؤولية سياسية ومعنوية كاملة عن أفعال «الذئاب المنفردة الفاشية»، كتارانت في نيوزيلندا، وقبله ديلان روف في الولايات المتحدة، الذي قتل 9 نساء من الأفارقة الأميركيين في كنيسة في مدينة شارلستون عام 2015، أو أندرز بريفيك الذي أردى 77 شخصاً في النرويج عام 2011. لم يفعل هؤلاء سوى ترجمة خطاب أصحاب «الياقات البيضاء» و الأكاديميين «المحترمين» إلى أفعال. وغنيّ عن القول إن هذه العمليات، ومثيلاتها المتوقعة في المستقبل، بسبب الازدهار الحالي لأطياف متنوعة من التيارات الفاشية، ستزيد من سعار الفوضى العالمية الراهنة.
أطروحة قديمة ومعتنقون جدد
أطروحة رونو كامو عن الاستعمار المضاد، أي قيام قادمين من المستعمرات السابقة بالاستيطان التدريجي في أوروبا، ليست من بنات أفكاره. هي أطروحة قديمة أوّل مَن قدّمها للرأي العام هو الكاتب الفرنسي جان راسباي في «مخيم القديسين»، روايته الصادرة عام 1973. يتخيل راسباي في الرواية وصول حوالى مليون لاجئ من الهند هرباً من الفقر، إلى منطقة الشاطئ اللازوردي في جنوب فرنسا عبر البحر، بما يمهد الطريق، بسبب تعاطف جماعات حقوق الإنسان معهم ولامبالاة السلطات وضعفها، لموجات هجرة جديدة هي بمثابة الاجتياحات التي تؤدي إلى احتلالهم فرنسا، وتحول سكانها «الأصليين» إلى أقلية في ديارهم.
وقد تشكّل حزب «الجبهة الوطنية» الفاشي على قاعدة مقاومة الهجرة المستمرة إلى فرنسا باعتبارها غزواً ممنهجاً ومنظماً لها، تقف وراءه أنظمة البلدان المستقلة حديثاً في العالم العربي وأفريقيا. الجديد هو استعارة بعض فرضيات هذه الأطروحة من قِبَل سياسيين منتمين إلى أحزاب اليمين التقليدي الذي يعاني تراجع معدلات شعبيته، ومن قِبَل مفكرين وإعلاميين مرتبطين بالحركة الصهيونية، كآلان فنكلكراوت وإليزابيت ليفي وإيريك زيمور وآخرين، أو بتيار الأصولية العلمانية التي لا تقلّ ضراوة في تطرفها عن بعض الأصوليات الدينية. لقد ساهم جميع هؤلاء، لاعتبارات سياسية ــــ انتخابية، أو من أجل الدفاع عن إسرائيل «الحليفة التي لا بد منها» في مواجهة «خطر إسلامي داهم» داخلي وليس فقط خارجياً، في إسباغ الصدقية على هذه الأطروحة، وفرضها باستمرار في النقاش العام في سياقات اجتماعية وسياسية تقدم أرضية خصبة لنمو التيارات العنصرية والفاشية.
فغياب الحلول للأزمات الاجتماعية المستعصية نتيجة السياسات النيوليبرالية التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة في دول الغرب، واضمحلال القوى السياسية البديلة التي تقطع مع هذه الخيارات، فتحا الباب واسعاً أمام نمو تيارات مقاولي الهوية وطروحاتهم التبسيطية التي تقوم على اختراع عدو وهمي، واتهامه بالمسؤولية عن كل التأزمات البنيوية التي تعانيها دول الغرب ومجتمعاته. ولا شك في أن ضمور نفوذ هذا الأخير، وبروز منافسين غير غربيين له على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية، وما يصاحبهما من صعود هستيري للعصبية البيضاء، قد عزّزا المناخات الأيديولوجية المؤاتية للمقاولين الفاشيين. جميع شعوب الجنوب، وفي مقدمهم المسلمون منهم، الغارقون في الويلات والكوارث الناجمة عن سياسات الغرب حيالهم، هم الأعداء ومصدر التهديد الأول المستهدفون من الحرب الأيديولوجية الخشنة وغير الناعمة التي يخوضها ائتلاف في طور الاتساع، يضم فاشيين جدداً وسياسيين انتهازيين وصهاينة عضويين وعلمانيين مصابين بالعمى.
أسوأ ما في الأمر أن بعض المثقفين العرب والمسلمين، الطامحين إلى الحصول على اعتراف الغرب وجوائزه، يساهمون موضوعياً في هذه الحرب الأيديولوجية عبر تحميلهم الموروث الثقافي لشعوبهم، والإسلام تحديداً، مسؤولية أعمال العنف التي تقع أحياناً، والأوضاع التي تعانيها بلدانهم باسم نقد ذاتي أجوف ومراءٍ. يُوظَّف هذا «النقد الذاتي» على طريقة «شهد شاهد من أهله». «الإسلاموفوبيا» أيديولوجيا قاتلة. يبرّر القتلة باسمها أفعالهم داخل دول الغرب، كما برر هذا الغرب في السابق حروبه الاستعمارية باسمها، وقد يبررها أيضاً في مستقبل يبدو شديد القتامة نظراً الى التحولات الداخلية الأيديولوجية والسياسية المذكورة آنفاً. فلمواجهة «الاستبدال الكبير» المستمر باعتقاد أنصار هذه الأطروحة، الحل هو التطهير العرقي المؤسّساتي، أي قيام الحكومات الغربية باعتماد مثل هذه السياسة تجاه المهاجرين وأبنائهم، وطردهم من البلاد حفاظاً على هويتها الأصلية. لم تكن مصادفة أن يكتب برينتون تارانت، اسم أحد قادة صرب البوسنة (رضوان كاراجيتش)، على بندقيته التي استخدمها لارتكاب المجزرة. هو وأمثاله بمثابة الذراع المسلحة لأيديولوجيا الكراهية المنتشرة في الغرب اليوم. ربما على الأقليات المستهدفة أن تتّحد، وتنظّم صفوفها للدفاع الذاتي عن النفس في مواجهة هذا الجنون القاتل.