إذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه، فإن الحكومة تقرأ من انطلاقتها. وحتى الآن جاءت هذه الانطلاقة مخالفة للتوقعات، انطلاقة ضعيفة مرتبكة ليس فيها «زخم الانطلاق»، وقد استهلكت حتى الآن ثلث فترة السماح المعطاة لها، وتشهد خلافا وتجاذبا بشأن الأولويات وترتيبها.
وبعدما كان الاتفاق على أولوية الملف الاقتصادي وتعبيد الطريق أمام عملية تنفيذ مؤتمر «سيدر»، تقدمت الملفات السياسية وأولها ملف النازحين والعلاقة مع سورية. وبعدما كانت مكافحة الفساد مدرجة في سياق عملية إصلاحية ولتعزيز الثقة بالدولة ومؤسساتها، حصل انحراف في مسارها وتسبب التجاذب السياسي حولها في إذكاء حال عدم اليقين وتعميق أزمة الثقة بعملية مكافحة الفساد وخلفياتها وآلياتها وإمكانات نجاحها.
كان ينقص الاشتباك السياسي بين رئيس الحكومة سعد الحريري والوزير جبران باسيل لتكتمل حلقة الأزمة المبكرة التي دخلتها الحكومة، وتتعزز الشكوك في الصمود لأمد طويل وفي مدى قدرتها على الإيفاء بوعودها وتنفيذ خططها الطموحة. وهذا الاشتباك شكل «مفاجأة وصدمة» لسببين على الأقل:
٭ الأول يتصل بعلاقة التفاهم والتعاون القائمة بين باسيل والحريري منذ ثلاث سنوات، وقد توطدت وترجمت في كل الاستحقاقات الرئاسية والنيابية والحكومية، الى درجة أنها لامست حد «العلاقة التحالفية» المشكو منها من حلفاء وخصوم الطرفين، وبالتالي فإن أحدا لم يتوقع أن تتعرض هذه العلاقة لانتكاسة من دون سابق إنذار، ولاهتزاز غير واضح الخلفيات والأسباب، ولكنه كاف لإطلاق «إنذار مبكر» حول مستقبل العلاقة ووجود مطبات وعوائق في طريقها لم تكن موجودة من قبل، وناجمة عن تبدل في المعطيات والأولويات، وفي الظروف السياسية المحيطة بالحريري وباسيل.
فالحريري لم يعد في الوضع الضعيف الذي كان فيه أيام الحكومة السابقة بعدما حقق تقدما ملحوظا في وضعه السياسي والشعبي، واحتضان الطائفة السنية لزعامته والتفافها حوله، وعلى قاعدة تأكيد الدور والصلاحيات لرئاسة الحكومة، وباسيل لم يعد يولي علاقته مع الحريري الأهمية التي كانت من قبل، خصوصا إذا لم تعد تنسجم مع برنامجه السياسي لهذه المرحلة ولم تعد كافية لمشروعه الرئاسي القادم بعد سنوات.
٭ أما الأمر الثاني، فإنه يتعلق بأهمية العلاقة بين باسيل والحريري وانعكاسها المباشر على الحكومة. فلا حكومة مستقرة ومنسجمة ومنتجة إذا لم تكن هذه العلاقة مستقرة، وإذا لم يكن هناك انسجام بين الرجلين اللذين يستحوذان عدديا على الأكثرية المطلقة في الحكومة ويشكلان سياسيا «صمام الأمان» لها، خصوصا أن باسيل يمثل رئيس الجمهورية على أرض الواقع السياسي، ويشكلان معا حالة وزارية وسياسية واحدة.
لم يعرف السبب المباشر لهذا الاشتباك، والمسألة التي شكلت موضوع الخلاف وشرارته:
ـ هل هي مسألة عودة النازحين السوريين والخلاف الحاصل بين وجهتي نظر: بين من يعطي الأولوية لعودة آمنة من دون انتظار الحل السياسي وبالتنسيق مع السلطات السورية تحت سقف المبادرة الروسية، وبين من يعطي الأولوية لالتزامات الحكومة تجاه المجتمعين العربي والدولي اللذين لا يريدان عودة النازحين بشروط دمشق وقبل إنجاز تسوية سياسية في سورية!
ـ هل هي مسألة التعيينات، حيث يصر الوزير باسيل على التحكم في المراكز المسيحية وعلى إبعاد أي رأي للحريري وغيره فيما يتعلق بـ «الشق المسيحي من التعيينات»، فيما يرفض الحريري ذلك ولا يمكنه تجاهل وجود أحزاب وقوى مسيحية أخرى ممثلة في الحكومة أو غير ممثلة فيها مثل الكتائب!
ـ هل هي مسألة الكهرباء وما يقال عن خلاف مستتر فيها حول الخطة الجديدة التي وضعتها وزارة الطاقة وفيها عودة الى استئجار البواخر لتمرير الفترة الانتقالية؟!
ما هو واضح أن هذا الاشتباك أعقب اجتماعا مطولا بين باسيل والحريري قبل توجه رئيس الحكومة الى مؤتمر بروكسل، وتردد أنه لم يكن اجتماعا ناجحا ولم يصل الى نتيجة في أكثر الملفات.
فكان أن فتح باسيل نار انتقاداته مصوبا على رئيس الحكومة بشكل مباشر وقال في خطابه في احتفال مركزي للتيار الوطني الحر «إما عودة النازحين أو لا حكومة. إما طرد الفساد عن طاولة مجلس الوزراء أو لا حكومة. إما صفر عجز كهرباء أو الحكومة صفر ولا حكومة».
هذا الكلام اعتبر في أوساط الحريري بمثابة تهديد ضمني بإسقاط الحكومة إذا استمرت على منحاها الراهن، وأعاد التذكير بمشهد سقوط حكومة الحريري عام 2010 باستقالة ثلث أعضائها، وهو الثلث الذي يتوافر حاليا. وحصلت سجالات سياسية بين أوساط الطرفين أشاعت أجواء توتر وقلق على مسار الحكومة ومصيرها، وحصلت اتصالات للتوضيح والضبط وإعادة الأمور الى نصابها.
وكان أن اتفق على لقاء قريب يعقد بين باسيل والحريري لإعادة تركيز التفاهم وسياسة الحكومة وتحت سقف التسوية التي يتفق الجميع إنها مطلوبة وصامدة حتى نهاية العهد.