كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:
في البيان الوزاري الأخير، أعيد «إحياء» اسم المؤسسة الوطنية للإستخدام من باب ضرورة «تحديثها وتطويرها من ضمن الخطة التي تهدف إلى مكافحة البطالة». ليست هذه استعادة استثنائية، فقد سبقت ذلك بيانات وزارية أخرى وقرارات حكومية وتوصيات دولية دعت إلى إعادة تفعيل تلك المؤسسة التي نيط بها تنظيم سوق العمل، توصيفاً وتوظيفاً، إلا أنها لم تفعل شيئاً. بقيت مجرّد «هيكل مؤسسة» تستقبل في أحسن الأحوال 150 طلب توظيف.
قبل 22 عاماً، كانت آخر دراسة قامت بها «المؤسسة الوطنية للإستخدام» لتقييم سوق العمل اللبناني. من بعدها… «نبت الحشيش». منذ ذلك الوقت، لم يعد في جعبة المؤسسة، التي من المفترض أن ترسم سياسات «التشغيل»، ما يمكن أن تقدّمه عن واقع سوق العمل في بلاد تمشي نحو أَجَلها. لا شيء، حرفياً. هذا ليس انطباعاً يخرج به زائر المؤسسة لتقديم طلبٍ وظيفي، إنما واقع مؤسسة عامة معطّلة عن العمل. حالها كحال مؤسسات عامة أخرى هي اليوم، هكذا، مجرّد أثر.
عام 1977، أنشئت المؤسسة ووُضعت لها مواد كثيرة (26 مادة) تتحدّث عن شخصيتها المعنوية واستقلاليتها ومهامها الكثيرة. كان المطلوب منها أن تقوم بـ«واجبين»: أولهما خدماتي عبر تأمين فرص عمل للبنانيين وتخفيف نسب البطالة وما ينتج عن ذلك من تنظيم سوق العمل. أما في الجزء الثاني من المهمة، فتقع على عاتق المؤسسة مهام التدريب المهني على المهن المطلوبة في سوق العمل.
هذا هو المبدأ القانوني الذي صدر على أساسه المرسوم 80 لإنشاء المؤسسة. من بعدها، لم يكن ثمة شيء يعوّل عليه سوى توصيات كثيرة بتفعيل عمل المؤسسة، منها ما أوصت به منظمة العمل الدولية في الإتفاقية رقم 142، «لتنفيذ مهامها الكثيرة والمتعدّدة». ومنها، أيضاً، قرار مجلس الوزراء عام 1995 الذي يدعو إلى «تفعيل دور المؤسسة الوطنية للإستخدام في مجال استجابة التأهيل لحاجات سوق العمل». ومنها، أيضاً وأيضاً، البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة والتي ما انفكت تشدّد على تلك «الضرورة»، وآخرها البيان الوزاري للحكومة الحالية الذي نصّ على ضرورة «تحديث قانون العمل وتطوير وتحديث المؤسسة الوطنية للإستخدام من ضمن خطة لمكافحة البطالة». هكذا، في كل مرّة تذكر فيها المؤسسة، تتغيّر المصطلحات من تحديث وتطوير وتفعيل فيما يبقى حالها على حاله.
في الطبقة الثامنة من مبنى المؤسسة المعزول في أحد الشوارع الخلفية، يسرد المدير العام جان أبو فاضل حكايتها التي تكمل رتابة المشهد العام. يبدأ من الإستقلالية والشخصية المعنوية التي «وُجدت فقط على الورق»، إذ لا استقلالية ولا شخصية معنوية في ظلّ وجود وصيّ. فالمؤسسة، بحسب المرسوم 80/77 تخضع «لوصاية وزارة العمل». أضف إلى ذلك أن وزير العمل – الوصي – هو في الآن نفسه رئيس مجلس إدارتها، ما يخالف روحية المرسوم 4517 الذي يعنى بالمؤسسات العامة ويفرض وجود مفوّض حكومي من قبل وزارة العمل، لا وزير العمل نفسه. في التفصيل، وبالنسبة لهذا المرسوم، يفترض، مثلاً، بالنسبة الى مقررات اجتماعات مجلس الإدارة، أن «يقوم رئيس مجلس الإدارة بتبليغ المقررات لوزير الوصاية». أي أن الوزير، في حالة المؤسسة الوطنية للإستخدام يبلّغ نفسه!
من الشخصية «المستقلة» والوزير المزدوج الصفة، إلى أعضاء مجلس الإدارة الذين يشبهون إدارتهم. في المبدأ، يقسم المجلس إلى ثلاث فئات: خمسة أعضاء يمثّلون أرباب العمل، وثلاثة ممثّلين للعمال، من الإتحاد العمالي العامة، وثلاثة ممثلين للدولة يمثلون الجامعة اللبنانية والتدريب المهني والمركز التربوي للبحوث والإنماء. وفي التتمة القانونية أيضاً، يفترض أن تتجدّد هوية هؤلاء الممثلين كل 3 سنوات. لكن، في هذا المكان بالذات، لا يزال أعضاء مجلس الإدارة هم أنفسهم منذ عام 2006. أربع ولايات وعام أول من الولاية الخامسة، ولم يجر تعيين مجلس إدارة جديد. الأنكى أن في المجلس الممدّد لا وجود لممثلين عن العمال، فاثنان منهم توفيا والثالث هاجر. هكذا، بقي أرباب العمل والدولة وغاب العمال.
هنا، في المبنى العتيق المستأجر بقيمة 245 مليون ليرة تحسم من موازنة المؤسسة التي استقرت هذا العام عند خمسة مليارات ليرة، ينهي أبو فاضل أعوامه الـ22 بعد شهر ونصف شهر. لم يكن بحاجة الى سنواتٍ طويلة كي يختصر حال المؤسسة وما تعيشه منذ تسعينيات القرن الماضي. يوم، كان «رئيس مصلحة فيها». يعرف أنها مؤسسة مهمّشة، معطّلة، ولا مكان لها في الـ«سيستم». أما، لماذا وجدت؟ «لأجل كل تلك الأهداف المنصوص عليها في القانون»، والتي بقيت حبراً على ورق. في تقييم سوق العمل اللبناني «الله يبعت».
في تقدير نسب البطالة، ثمة احصاء يتيم صادر منذ تسع سنوات عن دائرة الإحصاء المركزي يقول إن البطالة تقارب 10,5%. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، فيفترض بالمؤسسة أن تعيد صياغة توجّهات الطلاب الخارجين لتوّهم من مرحلة الثانوية نحو التخصص الجامعي، وإرشادهم الى التخصصات التي لا فائص فيها في سوق العمل والمطلوبة في آن. بمعنى آخر: تعريفهم بـ«شو في بسوق العمل». لكن، ذلك لا يحدث. لماذا؟ لأن جزءاً من عمل المؤسسة «شطب» في الموازنة، وهو الشق المتعلّق بالدراسات. والحكاية، كما يرويها أبو فاضل، تسير وفق التالي: عندما تعدّ الموازنة. تقيّم حاجيات المؤسسة من ناحية الإنفاق. قبل أن تصل إلى حدود 5 مليارات لهذا العام (ما قبل التشطيب)، كانت تقدّر تلك الحاجيات بـ3 مليارات، تطالها مرحلتين من الشطب: في المرحلة الأولى تخفّض الموازنة تلقائياً إلى مليارين ونصف مليار قبل أن يأتي شطب تكملة المليار عندما تصل إلى وزارة المال. هناك، يطال الشطب الثاني شق الدراسات كاملاً. هكذا، تشطب إحدى المهام الأساس من عمل المؤسسة.
الدراسات «الطايرة» ليست آخر حكاية المؤسسة. ففي الشق المتعلق بتأمين الوظائف، لم تعد المؤسسة تستقبل أكثر من 150 طلباً. 150 في مواجهة عشرات آلاف العاطلين عن العمل. يبرّر أبو فاضل ضعف الإقبال بأنه «في ظل التطور لم تعد المؤسسات الخاصة ترسل لائحة بوظائفها الشاغرة إلى المؤسسة بعدما باتت قادرة على التواصل مباشرة مع طالب الوظيفة سواء عبر البريد الإلكتروني أو أي وسيلة أخرى متاحة». يمكن إضافة شقٍ آخر هنا، له علاقة بمكاتب الإستخدام الخاصة التي تنبت في كل حين، والمقسّمة على شاكلة البلد هي الأخرى. وهنا، لا إحصاء أيضاً لعدد تلك المكاتب.
ثمة سبب آخر لا يعفي المؤسسة من التقصير، ويتعلّق بموقعها الإلكتروني الذي لا يقدّم شيئاً، باستثناء التعريف بها وباستقلاليتها ومرسوم التشكيل. لا وظائف شاغرة ولا إحصاءات ولا طلبات يمكن أن تقدّم إلكترونياً. طالب الوظيفة، في عصر التطور، يضطر حتى اليوم الى «الحضور شخصياً» إلى المؤسسة لتقديم طلبه. لماذا؟ لأن المؤسسة بحدّ ذاتها، والتي يقع في سلم أولوياتها تأمين الوظائف، بحاجة إلى موظفين. قبل أربعة أشهرٍ فقط، وصلت نسبة التوظيف في المؤسسة إلى 50%، إذ أن من بين 108 موظفين يفترض وجودهم في مصالحها، هناك اليوم 56 موظفاً ما بين إداري وفني. هؤلاء كانوا قبل أربعة أشهرٍ فقط 26 موظفاً، أي «ربع العدد المطلوب».
56 عليهم أن يغطّوا مهام أربع مصالح، وأن يحملوا تنفيذ مهام المؤسسة وعلى رأسها التوظيف. كيف يمكن حلّ هذا اللغز؟