كتب ناصر زيدان في صحيفة الأنباء:
في 16 مارس من العام 1977 أقدم مسلحون ملثمون على اغتيال رئيس الحركة الوطنية اللبنانية وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، خلال انتقاله بسيارته الوحيدة في بلدة ديردويت الشوفية. الخبر وقع كالصاعقة على اللبنانيين وعلى أبناء الجبل خاصة، واستنكرت كل القوى العربية والدولية الجريمة. وعلى إثر هذا الحدث أقدم مسلحون في عدة قرى شوفية على ارتكاب جرائم قتل بحق مدنيين مسيحيين عزل، بلغ عددهم 177 ضحية.
مازال لهذا اليوم الأسود من تاريخ لبنان تداعيات حتى يومنا هذا، ففي كل عام يزور ضريح كمال جنبلاط في المختارة عدد كبير من المسؤولين والمواطنين لوضع زهرة، كما تقام قداديس عن أرواح الضحايا الأبرياء الذي سقطوا في ذلك اليوم.
والمفارقة التي قد لا يدركها سوى الذين يعرفون تفاصيل الحياة الشوفية، أن المسلحين الذي أطلقوا النار على كمال جنبلاط، شوهدوا يلجأون الى أحد المراكز الأمنية السورية آنذاك، وفقا لما بينه التحقيق، كما أن المتهمين الأساسيين في عملية قتل الأبرياء المسيحيين كانوا يترددون باستمرار على مراكز الوحدات الخاصة السورية التي كانت تتواجد في البلدات التي وقعت فيها عمليات القتل، خصوصا في الباروك ومزرعة الشوف. وبينما أحدث اغتيال كمال جنبلاط فراغا هائلا في المنطقة، كونه كان يهتم بكل تفاصيل الحياة الشوفية، لاسيما رعايته الدائمة للتعايش بين المسيحيين والمسلمين الدروز، استغل بعض الأفراد هذه الواقعة لارتكاب فعلتهم الشنيعة ضد ابرياء.
وجاء قداس دير القمر الذي اقيم أمس الأول، بناء على رغبة وزير المهجرين الجديد ابن الشوف غسان عطا الله، حيث كان عدد من أبناء عائلته ضحايا ذلك اليوم الأسود، وقد تجاوب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مع الطلب، ووافق على إقامة القداس عن ارواح الضحايا، تحت اسم «التوبة والغفران».
وجنبلاط كان يذكر هؤلاء الضحايا الأبرياء في كل خطاباته التي كانت تلقى بمناسبة اغتيال والده على مدى 42 عاما، كما أن تيمور وليد جنبلاط بدأ حياته السياسية بزيارة عائلات هؤلاء الضحايا في العام 2017. وأبدى جنبلاط الأب الرغبة في المساهمة الشخصية في كل ما يعزز العيش المشترك في الجبل، ويؤكد على المصالحة التاريخية التي حصلت مع البطريرك نصرالله صفير عام 2001 في المختارة.
ولاحتفالية دير القمر هذا العام معان سياسية متعددة. أولها تأكيد التواصل القائم بين التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي الذي لم يصل الى حد التحالف، كما قال رئيس التيار جبران باسيل في كلمته امام الحاضرين في القداس، خصوصا أن التيار شعر بأن ترسيخ مسيرة التعاون في الجبل، لاسيما في ملف عودة المهجرين، حصل مع أطراف أخرى كالقوات اللبنانية وحزب الكتائب وغيرهم، ولم يجر عمل مشترك في هذا السياق بين التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي، رغم الزيارة المهمة التي قام بها الرئيس ميشال عون الى الجبل والى المختارة في العام 2010.
وثاني معاني القداس: هو حصر القاء الكلمات بجنبلاط وبالوزير جبران باسيل باسم رئيس الجمهورية. ولهذا الأمر دلالات واسعة، كونه اعتراف ضمني من قبل خصوم جنبلاط في الانتخابات، بالمكانة المتقدمة التي يتمتع بها في الجبل، واعتراف من جنبلاط بحيثية التيار الوطني الحر القائمة في الجبل، رغم أن التيار الوطني الحر ساند أطرافا درزية أخرى مناوئة لجنبلاط.
وفي المعاني الأخرى للقاء دير القمر، إشارة الى استعداد قوى لبنانية أساسية للتعاون، رغم التباين السياسي بينها، وذلك في كل ما يتعلق بالمصلحة اللبنانية العليا. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي. لكن غياب القوات اللبنانية عن القداس كان حدثا لا يمكن المرور عليه، نظرا لتأثيرها في الساحة المسيحية، وكونها شريكا أساسيا في مصالحة العام 2001.