دخلتْ بيروت في ما يشبه «الوقت المستقطع» بين سلسلة المحطات البارزة المرتبطة بالامتداد الإقليمي والدولي للواقع اللبناني التي شهدتها الأيام الأخيرة، وبين العودة الى «جدول الأعمال» المحلي المثقَل بملفات اقتصادية – مالية تتشابك في جوانب منها مع الوضع السياسي والتحديات التي تواجهها البلاد في غمرة التحوّلات المفصلية في المنطقة ومواجهاتها المفتوحة على فصولٍ جديدة من الصراعات المتعددة المستوى.
فبعد الزيارة البالغة الدلالات لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للعاصمة اللبنانية والتي وضعتْ لبنان أمام تحدياتٍ لا يستهان بها لجهة كيفية التوفيق بين حفظ استقراره الداخلي وبين التكيف مع موجبات المواجهة الأميركية مع إيران و«حزب الله»، ارتسمتْ أمس مشهدية معبّرة من موسكو التي توّج الرئيس ميشال عون زيارته لها بلقاءٍ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبيل إطلالة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله عصراً مطْلقاً مواقف ردّ فيها على رسائل بومبيو التي تجاوزت كل السقوف وأشاد بوحدة الموقف الرسمي اللبناني حيالها، كما تناول مسألة القرار الأميركي في شأن الجولان والتطورات في غزة.
ومنذ «أول الكلام» العلني في لقاء بوتين – عون، ظهرتْ أولويات الجانب اللبناني في مقاربة العلاقة التاريخية مع روسيا، وسط كلامٍ لافتٍ من رئيس الجمهورية شكر فيه نظيره الروسي على «مواقفكَ المُدافِعة عن الأقليات المسيحية في المشرق التي مرّت بظروف صعبة لم تنته بعد، ونتمنى ان تستمر في هذه المساعدة»، قبل ان ينتقد عون الولايات المتحدة دون تسميتها حين تطرّق إلى «ضم الجولان لاسرائيل، وهو الأمر الذي يتعارض مع كل قرارات وقوانين الأمم المتحدة، وهي المرة الثانية بعد القرار حول القدس التي تهِبُ فيها دولةٌ دولةً أرضاً ليست لها، وهذا مثار قلق بالنسبة الى الدول المحيطة باسرائيل ونتمنى ان تُطَمْئننا الى المستقبل»، وموضحاً «اننا التقينا الشخصيات الاقتصادية وكان هناك تفاهم في ما بيننا على المستقبل القريب».
من جهته ركّز بوتين على اهمية العلاقات مع لبنان «الشريك القديم والتقليدي في منطقة الشرق الأوسط».
وبعدها بدأت المحادثات المغلقة التي تركّزت ايضاً في شكل أساسي على موضوع النازحين السوريين في ضوء المبادرة الروسية وآفاق الأزمة السورية ومشاركة الشركات الروسية في مجاليْ النفط والغاز في لبنان، إضافة إلى الأوضاع في المنطقة والعلاقات الثنائية من مختلف جوانبها وإمكان تعزيز التعاون بين البلدين.
وكان عون التقى قبل الظهر رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فالودين، واصفاً قرار الرئيس دونالد ترامب بإعطاء الحق لاسرائيل بضمّ الجولان السوري بأنه «يوم أسود يشهده العالم» معتبراً «ان هذا العمل التعسفي يشكل مساسا بالشرعية الدولية التي ترعى الحدود بين الدول».
وتمنى عون أن يكون التعاون مع روسيا أيضاً في مجال إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم «وخصوصاً أنه إذا لم نصل الى حلّ لمعاناتهم، فإن الكثيرين منهم قد يفرون من الظروف الصعبة التي يعيشون فيها الى دول أخرى ولا سيما أوروبا التي لدى دولها مصلحة بحلّ هذه المشكلة بسرعة».
من جهته اقترح رئيس مجلس الدوما عقد مؤتمر برلماني في بيروت يجمع بين ممثلي البرلمانات «اللبناني والروسي والاوروبي والتركي والايراني والسوري»، يخصص لدرس عودة النازحين السوريين.
وعلى هامش زيارة موسكو، أعلن وزير الخارجية جبران باسيل (يرافق عون) في حديث الى «روسيا اليوم» انه «لا يمكن أن نقبل بأي صورة إلصاق تهمة الارهاب بحزب الله وقياداته ووزرائه ونوابه وجمهوره»، معلناً: «نحن نختلف مع اميركا في موضوع المقاومة والإرهاب، لكننا نتفاهم على ملفات كثيرة، وهذا برهان على قدرتنا على نسج علاقتنا مع الدول بما يحترم خصوصيتنا».
وأكد: «لسنا في مواجهة مع الولايات المتحدة بل نتعاطى معها كصديقة، فهي تسلح الجيش اللبناني بما يؤكد حرصها على استقرار لبنان»، وموضحاً «مستعدون لقبول مساعدات وهبات من روسيا اذا كانت تصبّ في مصلحتنا، وانا متأكد من أن روسيا لا يمكن أن تطلب من لبنان او تعرض عليه ما يضر به».
وفيما عاد عون الى بيروت بعد القمة مع بوتين، ستشكّل الساعات المقبلة فسحةً لمزيد من تقويم خلاصات «رسائل البريد السريع» التي حملها بومبيو وسبل التعاطي معها وحصيلة قمة موسكو اضافة الى مواقف نصرالله، وذلك قبل ان تُستأنف ورشةُ المَساعي لوضع الإجراءات الإصلاحية الممهِّدة لبدء تنفيذ مقررات مؤتمر سيدر على السكة، والتي أخذت ما يشبه «الاستراحة القسرية» في ضوء خضوع رئيس الوزراء سعد الحريري لعملية تمييل ناجحة في شرايين القلب في باريس استدعت إرجاء جلسة الحكومة التي كانت مقررة غداً، علماً ان هذا الأمر اعتُبر بمثابة «فترة سماح» إضافية لبلوغ تفاهمات واسعة حول ملف الكهرباء الذي يشكّل المدخل الذي لا بدّ منه لإعطاء إشارات جدية لانطلاق مسار الإصلاحات.