كتب مصطفى علوش في “الجمهورية”:
“أنا الأديب الأدباتي غايظني حال بلدياتي وغلبت أوحوح بآهاتي لكن بلدنا سمعها ثقيل” (أحمد فؤاد نجم)
لو راجعنا كل العقائد «الأبوكاليبتية» في التاريخ، وهي التي تعتبر أنّ دمار كل شيء هو السبيل للوصول إلى المجتمع المثالي، لرأينا أنها تتشابه في مسارها إلى حدّ التطابق، وهذا بغض النظر عن مسألة ارتباطها بعقيدة دينية أو دوغما سياسية علمانية.
كلها ترتكز الى أسطورة ما، وتؤكد على أنّ الشر يسيطر على الحاضر، وكلها تعتبر أنه كلما زادت الفوضى والدمار كلما اقتربت النهاية، وكلما زادت علائم الفوضى كلما اقتربت عودة المخلص، والإجماع هنا هو أنّ المخلص سيقود المعركة الفاصلة بين الخير والشر، ليسود السلام المقدس على فئة واحدة هي الناجية لأنها آمنت بالعقيدة وتمسكت بها ودافعت عنها وضحّت لأجلها.
إنها التعبير الصارخ عن جبروت الفكرة التي تأخذ عقول البشر بشكل جماعي، فيتحولون إلى أدوات تتحرك بالشعارات وبكاريزما القائد، من دون تفكير أو نقاش، ولا حتى مراجعة حسابات عندما يصطدم الواقع بما يتناقض بشكل جذري مع القناعات المقدّسة.
ما لنا ولكل هذا الكلام، فلا أدّعي لنفسي الخروج عن منطق التحليل السياسي البسيط، للتعدي على العلوم الإجتماعية التي تتداخل فيها ضروب شتى من المعطيات. لكن لو نظرنا اليوم إلى مشروع ولاية الفقيه والمشروع الصهيوني ومشاريع قومية وثورية سبقت على مدى القرنين الماضيين، لرأينا أوجه التشابه في النهج والفكر واضحة لا لبس فيها.
لكن ذلك لا يعني أنّ هذه المشاريع صديقة لبعضها البعض، فبالواقع هي تتنافس بشكل عنيف عادة، خصوصاً إن تواجدت على مجالات حيوية متجاورة، وهذا ما حدث مثلاً بين مشروعي ستالين وهتلر عندما تحالفا في بداية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تقاتلا بوحشية لا سابق لها في التاريخ للسيطرة على المدى الحيوي المشترك بينهما، ودفعت البشرية وشعوب اوروبا يومها أثماناً غير مسبوقة، رغم تاريخ صراعاتها الدموية الطويلة.
مع كل هذا أريد أن أؤكّد على عدم اقتناعي بالنظرية القائلة بوجود مؤامرة فارسية صهيونية مشتركة على العرب، ولا بالمعطيات التاريخية المستخدمة في تأييد تلك الحجج، من تاريخ هدم الهيكل الأول، مروراً باليمن في القرن الخامس ميلادي، وبتواريخ أخرى حتى وصولنا إلى يومنا هذا.
الواقع بالنسبة لي هو أنّ العداوة حقيقية بين إيران وإسرائيل، ولكن سببها هو التنافس على مدى حيوي واحد. لكن من ضمن هذا التنافس، فقد تمكن مشروع ولاية الفقيه، منذ إنشائه، من أن يحقق لإسرائيل ما لم تتمكن من تحقيقه بانتصاراتها المتكررة في المعارك والحروب، ولا بتفوّقها التقني والإقتصادي.
أولاً من ناحية تقاطع المصالح، فإنّ التدخل الإيراني تحت شعار تعميم الثورة والتحضير لعودة المهدي، أدّيا إلى تدمير جزء كبير من المنظومات المسماة وطنية المحيطة بإسرائيل، وبالتالي فإنّ معظم الحديث يدور اليوم حول إعادة تركيب لكيانات صغيرة الحجم، معظمها قائمة على تقسيمات مذهبية.
صحيح أنّ الولي الفقيه لم يكن يسعى إلى تقسيم هذه المنطقة بالأساس، فهو حسب أدبيات مشروعه، يسعى إلى توحيدها تحت لوائه كهدف عقائدي موَثّق في الأدبيات.
لكن سعيه المحموم أدى إلى إثارة مخاوف محيطه العربي، وبالتالي فإنّ فعل مقاومة مشروعه أدى إلى اندفاع مشاريع أخرى موجودة سلفاً في الأدراج الدولية، خصوصاً بعد تفلّت الوحش الإرهابي بشكل مبرمج على مدى السنوات القليلة الماضية.
وهنا يكون الولي الفقيه حقق عن غير قصد جزءاً كبيراً من حلم إسرائيل لتتقسم المنطقة إلى كيانات تشبهها.
من الناحية الإجتماعية، وحول المزاج السياسي، فقد تمكن الغزو الإيراني القومي الخلفية، ولكن تحت شعارات مذهبية، من توجيه المزاج العربي العام من أولوية العداء مع إسرائيل إلى أولوية الدفاع عن النفس، بعد أن أصبح الغزو الفارسي في عقر دار معظم كياناتهم في المنطقة.
وبالتالي فقد أصبح صد الغزو المذهبي الفارسي ودرء خطره الداهم، أهم بكثير من الصمود في وجه مشروع صهيوني استراتيجي، ولكن مزمن في طبعه.
وهنا ليس علينا أن نستغرب، وإن استهجنّا الواقع لخلفيات بعضنا النضالية ضد إسرائيل، ذهاب بعض البراغماتيين إلى السعي لتحالف الضرورة مع عدو يشكل خطراً أصبح ثانوياً بالنسبة لعدو خطره داهم.
ثالثاً، وهو الجزء العصي على الفهم إلّا إذا درسنا خلفية الفلسفة الحاخامية اليهودية في الحاجة إلى العداء مع الآخر لتأمين التماسك الداخلي، وهي أمور تختلط فيها المسائل الدينية مع الإجتماعية والسياسية، وهو ما يسميه بعض القادة الصهاينة بمجتمع «اسبارطة».
وهذا يعني الحاجة لوجود عدو يحيط بالسور المحصن لتأمين التماسك الداخلي. يعني أنّ الخطابات العنترية خارج أسوار الكيان الصهيوني هي ما تحتاجه إسرائيل، على شاكلة ما يحدث بشكل دوري عندنا عن طريق وكيل الولي الفقيه في لبنان، وما كان يحدث على يد قادة كيانات حليفة اليوم لإيران.
بالتالي فإنّ إيران بحاجة لشخصيات مثل نتنياهو والسيّئ الذكر شارون ليطلقوا التهديدات تجاهها، والمؤكد أنّ حسن نصر الله يحتاج لشهادة الصهاينة في قوته وقدرته على تهديد أمن إسرائيل لتسويغ استمراره في خدمة الولي الفقيه الذي يموّل ويسلم ويعطي التكليف الشرعي.
بالمحصلة فنحن في ظل حلقة مفرغة من تقاطع المصالح بين الحلم التوراتي والحلم المهدوي، والحسرة على ضحاياهما العرب شيعة وسنّة ومسيحيين وكيانات كنا نسميها أوطاناً!