كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
قبل ان تستوعب الساحة اللبنانية ترددات «القنابل العنقودية» التي اطلقها وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو من بيروت، جاء قرار رئيسه دونالد ترامب بالإعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان السوري ليلقي ظلالاً على نتائجها، وهو امر يدفع الى البحث عمّا تريده الإدارة الأميركية للمنطقة. فهل من تصور واضح المعالم؟ وما هي حصّة لبنان مما يجري؟
ليس سهلاً على المراقبين الديبلوماسيين الربط السريع بين جولة بومبيو في المنطقة، والتي شملت لبنان للمرة الاولى، وبين الحدث الذي اعقبه باعتراف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل. فالموضوع لم يُطرح في الأمس القريب، هو حلم إسرائيلي مضى عليه نصف قرن.
وكل ذلك قائم بمعزل عن الترددات المُنتظرة لهذا القرار والحديث عن قانونيته بكل المفاهيم والتفاهمات والمواثيق الدولية والإقليمية، التي تجعل منه قراراً وهمياً، لأنه يتناقض وواقع الحال لأسباب عدة، منها ما يتصل بطبيعة المنطقة وموازين القوى بين اسرائيل وجيرانها العرب، ولاسيما الأردن وسوريا ولبنان، المعنيين مباشرة بما جرى ولو بأشكال ونِسب مختلفة.
ما يعني لبنان، تقول المصادر القانونية والدستورية اللبنانية، انّ على المسؤولين اللبنانيين قبل السوريين بدء احتساب المرحلة التي سيُصار فيها الى اعتبار تلال كفرشوبا وشبعا من الأراضي التابعة للجولان المحتل، طالما أنّ لبنانيتها لم تُثبت بعد في الخرائط الدولية المودعة في الأمم المتحدة، عملاً بما تقول به الإتفاقات الدولية.
فالجانب اللبناني لم يتمكن في السنوات الماضية من إثبات لبنانية هذه المزارع، واقتصر الأمر على بعض الدراسات والآراء التي عبّر عنها خبراء في التاريخ والجغرافيا، وأخرى متصلة بالتفاهمات الجمركية الموقّعة بين السلطات المختصة في لبنان وسوريا، التي أدرجت التلال المُشار اليها الى أراضٍ لبنانية مودعة موقتاً لدى السلطات الجمركية السورية لإدارة المنطقة واستيفاء الرسوم التي كانت تجبى على انّها من المعابر الواقعة عند مثلث الأراضي اللبنانية ـ السورية ـ الفلسطينية قبل ان تتحول اراضي محتلة.
ولا يمكن لأي من المتابعين لهذا الملف قراءة الإجراء الذي اتخذه القاضي العقاري في النبطية أحمد مزهر، وطلب فيه إجراء مسح للأراضي اللبنانية التي تحتلها إسرائيل في خراج بلدتي كفرشوبا وشبعا المحاذيتين للجولان السوري المحتل، تمهيداً لمسح تلك الاراضي على إسم الجمهورية اللبنانية وأسماء المالكين اللبنانيين استناداً الى الخرائط الجوية المودعة لدى مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش وبعض الدوائر اللبنانية المعنية.
وهو إجراء ليس الأول من نوعه، فقد سبقه قراران قضيا بمسح الاراضي المحتلة في بلدتي بليدا والعديسة في منطقة مرجعيون، من دون ان يتغيّر شيء في واقع الأمور بالنسبة الى الأراضي والعقارات المحتلة.
واياً كانت النتائج التي يمكن ان ينتهي اليها قرار ترامب في شأن الجولان، فإن قرار القاضي العقاري سيبقى حبراً على ورق ما لم يُسجل لدى الدوائر المختصة في الأمم المتحدة لينال الموافقة الدولية والإعتراف به شكلاً ومضموناً.
علماً انّ مثل هذا الإجراء لم ينفع دمشق سابقاً في تغيير مجرى المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، التي تناولت مصير هضبة الجولان المحتل بوساطة اميركية، بعدما ظهر خلاف حاد نتيجة الخرائط السورية التي وضعت الضفة الشرقية من بحيرة طبريا على حدودها الغربية، الأمر الذي رفضته إسرائيل.
فانتصر منطق القوة على منطق الحق بكل أبعاده القانونية والدستورية والديبلوماسية ولو موقتا، الى ان جاء القرار الأميركي مع ما يحمله من التباسات قانونية ودولية واممية. لكن ذلك لن يغيّر شيئاً على أرض الواقع. فالنظام السوري لم يسترجع سيطرته بعد على نحو ثلث اراضيه قبل البحث في مصير الجولان.
على هذه الخلفيات بات على اللبنانيين أن يستشعروا المخاطر بالنسبة الى ضمّ مزارع شبعا الى السيادة الإسرائيلية في اي لحظة. وهو امر كان محتسباً في المشاورات التي جرت مع بومبيو خلال زيارته الأخيرة لبيروت.
فالمفاوضات حول الحدود البرية والبحرية بين لبنان واسرائيل التي أجراها معه المسؤولون اللبنانيون تتناول شبعا وكفرشوبا. فهي من النقاط المتحفّظ عليها لبنانياً عند البحث في ترسيم الخط الأزرق كما هو عليه الآن.
ولذلك، تقول مصادر ديبلوماسية انّ التردّد في استعادة المفاوضات مع اسرائيل حول حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة، البحرية والبرية منها، ستصطدم بالواقع الجديد متى ضمّت اسرائيل اراضي المزارع الى اراضي هضبة الجولان، لتُضاف نقطة معقّدة وصعبة الى لائحة القضايا المطروحة على المفاوضات متى استُؤنفت بين الطرفين.
وكشف من التقوا بومبيو في الساعات الأخيرة التي سبقت مغادرته بيروت، انه لم يكن مطمئناً الى ما يمكن ان يؤدي اليه التشدّد اللبناني في بعض القضايا.
فهو ابدى تفهماً للإصرار على إعادة النازحين السوريين الى بلادهم. والمح الى انّ موقف بلاده واضح منها، ولا يمكن توفير برامج تفيض عمّا يدبّر الى اليوم، في ظل رفض النظام السوري استعادة ابنائه جميعاً واصراره على التمييز بين من يشملهم هذا الحق ومن يفتقدونه وهم كثر، بالإضافة الى حجم الدمار الذي غيّر معالم قرى ومدن سورية كبيرة في عدد من المناطق ولا تتوافر فيها ظروف العودة بأبسط مقوماتها، ملمحاً الى انّ موسكو وعواصم غربية ودولية أخرى تشاطره الرأي في هذا الملف.
لكن بومبيو لم يتفهم عدم وجود موقف موحّد من عملية ترسيم الحدود بين البر والبحر، بمعزل عن البحث في مصير المزارع. فالعملية تشمل آلاف الكيلومترات الحدودية البحرية والبرية بين لبنان واسرائيل، وانّ التردّد في خوض المفاوضات قد لا يعود على لبنان بما يأمله من نتائج. فمنطق القوة فُرض وما زال أمراً واقعاً جديداً قد يُكرّس لاحقاً بأشكال أخرى، وما جرى في الجولان أمس خير دليل على ما عبّر عنه بومبيو قبل عودته الى بلاده.
وقياساً الى ضرورة الفصل بين زيارة بومبيو وما جرى في الجولان، فانّ التوصل الى فهم ما تريده الإدارة الأميركية ليس سهلاً. فكل ما سوَّق له بومبيو من عدائية مطلوبة تجاه ايران و«حزب الله» والسعي الى تشويه صورتهما أنهاه ترامب في لحظات.
وجاء القرار بضمّ الجولان ليعطي ايران و«حزب الله» والنظام السوري ومعهم كل المحور الممانع، اوراقاً تعزّز طروحاتهم شعبياً وتُحرج من يبدي من العرب تفهماً للموقف الأميركي.
مع الإشارة الى انّ كل المواجهات المفتوحة على كل السيناريوهات المحتملة بين الطرفين مبنية على فرضيات، طالما انّها لا تتمتع بالقوة الكافية لإنهاء الواقع المؤلم نتيجة ما شهدته العواصم العربية من تدمير وتخريب، ودمشق واحدة منها، فيما تعيش بيروت على وقع هذا النزاع بلا أفق واضح أو معلوم.