كتب محمد وهبة في “الاخبار”:
يزور وزير العمل كميل أبو سليمان، اليوم، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. طبيعة الزيارة بروتوكولية، إلا أنها تأتي في أشدّ الظروف سوءاً في هذه المؤسسة التي تعاني من عجز مالي وإداري، في ظل شبه انعدام للرقابة وتبعيّة سياسيّة ورغبة متنامية في اتجاه تقويضها كأداة اجتماعية.
أكثر من عشر سنوات مرّت على انتهاء ولاية مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وأكثر من ست على شغور مقعدَي عضوَي اللجنة الفنية، وفترة مماثلة على انتهاء ولاية اللجنة المالية، وأكثر من ثماني سنوات على انعدام التدقيق الخارجي، فيما بات الشغور الوظيفي في المؤسسة يتجاوز 50% من الملاك، وتتركز غالبيته في الفئات التي تعمل مصفِّياً أو مراقباً مالياً أو ما يماثلهما.
طوال هذه الفترة، استمرّ مجلس الإدارة بتسيير أعمال المؤسسة من دون أي قيمة مضافة فعلية. ولم تكن الإدارة في أفضل حالاتها أيضاً. إذ لم يشهد الصندوق أي تطوّر نوعي في أدائه وآليات عمله، لا مع المضمونين ولا مع الأطراف الخارجية من مستشفيات وصيادلة وأطباء… فالمكننة التي بدأت قبل عشر سنوات لا تزال «بسيطة جداً» بحسب أحد أعضاء مجلس الإدارة، إذ إنها لا تزال جزئية في أعمال المحاسبة، ولا وجود لها في الربط الخارجي مع المستشفيات والصيادلة والأطباء. باختصار، يعمل الصندوق في ضوء المكننة الحالية وكأنه عبارة عن جزر تتناقل المعلومات فيما بينها يدوياً، وتعيد إدخالها من دون وجود الترابط الفعلي الذي يفترض أن توفّره المكننة.
أما الدولة التي أنيطت بها الوصاية على أعمال الصندوق عبر المادة الأولى من قانون إنشاء الضمان التي تخضعه لوصاية وزير العمل المباشرة ووصاية مجلس الوزراء المسبقة، ورقابة ديوان المحاسبة المؤخّرة، فقد تخلّفت عن أي دور لها أيضاً، تاركة أجهزة الصندوق تعمل بحسب مصالح القوى السياسية المسيطرة عليه، وعلاقاتها بأصحاب العمل.
أدّى تقصير الدولة مع الصندوق إلى تراكم مستحقات مالية للضمان بذمة الخزينة بقيمة 2785 مليار ليرة ما عدا فوائدها، وهي ناتجة من تخلف الدولة عن سداد مساهمتها في نفقات المرض والأمومة بنسبة 25%، واشتراكات عن موظفيها المصرّح عنهم للضمان. والأنكى من ذلك، أنه خلال الأشهر الأخيرة، استعملت الدولة الضمان أداةً تمويلية لسدّ العجز في الاكتتابات في سندات الخزينة، ما أدّى عملياً إلى رفع حصّة الضمان في سندات الخزينة بأكثر من 5 نقاط مئوية نسبة إلى توظيفاتها في هذه السندات. هذه المبالغ هي أموال فرع نهاية الخدمة، أي تعويضات العمال التي يجب التعامل معها بجديّة.
تسأل مصادر مطلعة: لماذا لم تدفع وزارة المال أي قرش للضمان منذ سنوات عديدة؟ ولماذا لا تدفعها له عبر سندات الخزينة، إذ إن هذا الحلّ ممكن ولا يزيد الضغط على سيولتها؟
على أي حال، مكمن القصّة كلّها في السيطرة السياسية على الصندوق. فمن المعروف أن الصندوق يعدّ أحد أبرز المؤسسات التي تسيطر عليها حركة أمل، إلا أن التيار الوطني الحرّ يسعى لتفكيك هذه السيطرة من خلال إجراء انتخابات لمجلس إدارة الصندوق تؤدي إلى تعيين النائب السابق نبيل نقولاً رئيساً لمجلس إدارة الصندوق.
قد لا يكون سهلاً على التيار فرض تعيين نقولا، إذ إن انتخابات مجلس إدارة الصندوق ثلاثية التمثيل: 10 أعضاء يسمّيهم الاتحاد العمالي العام، 10 أعضاء تسمّيهم تجمعات أصحاب العمل، و6 أعضاء تسميهم الدولة. وكما هو واضح ومعروف للجميع، فإن سيطرة حركة أمل على المجلس التنفيذي للاتحاد العمالي العام تمنع إشراك أي طرف آخر في القرار، كذلك إن للحركة نفوذاً قوياً على بعض تجمّعات أصحاب العمل أيضاً، ما يؤدي عملياً إلى فوزها المسبق بأكثرية مجلس الإدارة، إضافة إلى حصّتها في تعيينات ممثلي الدولة.
في مقابل ذلك، برز اقتراح يتعلق بتعيين مجلس الوزراء لجنة مؤقتة من أجل إنهاء الحالة «الشاذة» للسيطرة السياسية على الصندوق، إلا أن التجربة السابقة للجنة المؤقتة التي عينت مطلع التسعينيات، لم تكن مشجّعة، فرُوِّج لاقتراح خفض عدد أعضاء مجلس الإدارة من 26 إلى 14. إلا أن الاقتراح يتطلب تعديلاً قانونياً يمرّ في مجلس النواب، ويتطلب أيضاً تعديل مراسيم الهيئات الأكثر تمثيلاً للعمال ولأصحاب العمل، ما يعني أن التعديل قد لا يخدم الوظيفة السياسية التي يُطرح من أجلها.
وبحسب مصادر معنيّة، اتّفق وزير العمل مع النائب ياسين جابر الذي سمّاه الرئيس نبيه بري لمتابعة ملف الضمان، على أن يطلق انتخابات مجلس الإدارة قريباً، في انتظار حسم مسألة خفض عدد الأعضاء التي قد تتطلب تعديلات قانونية ووقتاً طويلاً. أما بالنسبة إلى تعيين عضوَي اللجنة الفنية وتعيين اللجنة المالية، فليس هناك اتفاق بشأنها بعد، رغم وجود حاجة ملحة لهما. إذ إن اللجنة المالية هي التي تحدّد أصول توظيف أموال الضمان وسياساته، وتعيين عضوَي اللجنة الفنية ضروري لنصاب اللجنة الفنية التي تقوم بالرقابة الداخلية على أعمال الصندوق.
ومن نتائج غياب الدولة عن الضمان، أن سدّ الشغور في الوظائف بات محصوراً بقرار من مجلس الوزراء وبموافقة مجلس الخدمة المدنية، خلافاً لما هو عليه قانون الضمان الذي يمنح هذه المؤسسة استقلالية كاملة. وقد أدّى هذا الأمر إلى النتيجة الآتية: ليس هناك أي مدير أصيل في الضمان من أصل 14 مديراً حالياً ملحوظين في الملاك. والاسوأ، أنه من بين هؤلاء، هناك اثنان معينان بالوكالة من قبل مجلس الإدارة، فيما هناك خمسة معينون بالتكليف من قبل المدير العام خلافاً للأصول.
وبسبب العجز المالي في فرع تقديمات المرض والأمومة، اعتادت إدارة الضمان، بموافقة مجلس الإدارة، وتحت أعين اللجنة الفنية، مدَّ اليد إلى أموال فرع نهاية الخدمة بشكل غير قانوني، وسحبت أكثر من 2000 مليار ليرة لتغطية العجز في المرض والأمومة.
في الواقع، حاولت الدولة على مدى السنوات الماضية تقويض الضمان كأداة اجتماعية تخدم أكثر من ربع اللبنانيين. فبدلاً من تطبيق قانون الضمان وتعميم تغطيته على كل اللبنانيين، قرّرت فتح دكاكين للتقديمات الصحية والاجتماعية والتوسع فيها وصولاً إلى البطاقة الصحية لوزارة الصحة. كذلك برز في الفترة الأخيرة اقتراح لإنشاء قانون يؤدي إلى إدخال أرباب العمل في الضمان دون غيرهم من الفئات المعوزة والفقيرة.
اختلاس «نائم» في مركز بنت جبيل
تراكمت عمليات الاختلاس في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. هناك قضايا أحيلت على القضاء وصدر حكم فيها، وهناك الكثير من القضايا التي لم يصدر أي حكم فيها ولا تزال نائمة في أدراج القضاء مثل قضية الاختلاس في مركز الدورة. لكن المشكلة أن هناك فضائح اختلاس تجري التعمية عليها، مثل تلك التي كشفت في مركز بنت جبيل. في ذلك المركز، هناك مياوم (ليس أجيراً في الصندوق) قام بعملية اختلاس فريدة، إذ كان ينظّم وصفات طبية بأسماء مضمونين حقيقيين ومن دون علمهم، ويمرّر المعاملة في المركز ويستصدر الموافقة عليها والشيك الخاص بها، وهو الذي يقبض الشيك من المصرف بالتعاون مع ثلاثة موظفين هناك. تقول مصادر مطلعة، إن قيمة المبالغ التي اختلسها المياوم بلغت كمتوسط 45 مليون ليرة شهرياً على فترة طويلة نسبياً، لكن المشكلة أن هذه القضية انكشفت قبل وقت طويل ولا تزال نائمة في أدراج التفتيش الإداري، ولم تُحَل على النيابة العامة كما أحيلت ملفات اكتشفت بعدها، علماً بأن المصرف المعني اكتشف السرقة وطرد الموظفين الثلاثة المتواطئين مع المياوم، وادّعى عليهم.