تختبر خَيْل الحكومة الخَبَار (الأرض الرخوة، أو الرملية) اللبنانية، عوابساً (أي بمنتهى الجدية) في محاولة لإقرار خطة الكهرباء التي تدافع عنها الوزيرة الشابة، قليلة الخبرة، المنتسبة إلى «التيار الوطني الحر» (انتساب بالإنتماء إن لم يكن بالعضوية والإنتماء) في القصر الجمهوري، حيث يقبض على سدَّة الرئاسة الرئيس ميشال عون المنتخب من كل الكتل النيابية، ذات التمثيل الطائفي الواسع، رئيساً منذ 31 (ت1) 2016، وهو المؤسس و«المرشد الأعلى» (بالمعنى السياسي) للتيار، الذي يدير على نحو فاقع مفاصل السياسة والاقتصاد والأمن، وحتى محاربة الفساد في الجمهورية اللبنانية، ذات النظام البرلماني الديمقراطي، التي قام نظامها على جملة من المعادلات في الداخل والخارج، حوَّلته على مدى أكثر من 75 عاماً من عمر الاستقلال إلى أرض «رسائل»، و«تقطيع أزمات» وبناء جسور من القوة والضعف في عموم «الشرق الأوسط» بصرف النظر عن تسمياته، سواء أكان كبيراً، أو جديداً، استعمارياً، أو إسلامياً، أو خلاف ذلك.
فتحت الأزمة السورية، بدءاً من انسحاب إسرائيل عام 2000، إلى اغتيال الحريري (الرئيس رفيق الحريري) 2005 إلى اندلاع الحرب داخل سوريا نفسها، الباب أمام لبنان، لأن يُشكّل الخلفية الإيديولوجية، أو الاقتصادية، أو الاستراتيجية، لمعظم الدول الإقليمية والدولية، اللاعبة على مسرح الشرق الأوسط، وأزماته المتفلتة من أفغانستان (طالبان) إلى باكستان (القنبلة النووية الإسلامية) إلى إيران (جمهورية الصعود الشيعي الباحث عن عصر إمبراطوري) مروراً بتركيا الأردوغانية (الباحثة عن نفوذ يتخطى الحدود عبر وكالة الإسلام السياسي، على النمط الكمالي، الغربي) وصولاً إلى إسرائيل «التوراتية»، الباحثة عن مكان لها تحت سماء الشرق الأوسط الممتد بين قارتي آسيا وأفريقيا، بوصفها الحلقة الأقوى لربط جغرافيا التخلف في العالم الثالث بجغرافيا التقدّم في أوروبا وأميركا الشمالية واليابان، وصولاً إلى «التنين الصيني»، الذي يهدّد بالتهام الأسواق العالمية، حتى في عقر «العنصر الاستعماري» الأبيض في الأرض التي اكتشفها كريستوفر كولومبس قبل أكثر من خمسة قرون…
أمسكت إيران بورقة «المقاومة» للدخول إلى العالم العربي، سواء أكان سنيّاً أم شيعياً.. لكنها حوصرت بقوة من القوة الثابتة أو الصاعدة: المملكة العربية السعودية ومعها دول الخليج.. وصولاً إلى فرض العقوبات القاسية عليها..
ولعبت أوروبا على ورقة الإرث الاستعماري، لاعتبار بيروت، مرفأ العبور إلى دول الخليج، وإيران، فضلاً عن أفريقيا الفرانكوفونية (شمال أفريقيا العربية وشاطئ العاج وغينيا والسنغال الخ..)، لا سيما فرنسا، لكنها أخفقت تحت وطأة أزمات «اليورو» وهشاشة النظام الذي ولّده، بعد خروج بريطانيا من فلكه.
تمكنت الدولة العبرية، بعد كمب ديفيد (1978) وأوسلو (1991) ووادي عرية (بعد هذا التاريخ) من تكوين استراتيجية قوة، هزتها الحروب اللبنانية، من تحرير الجنوب إلى إحباط أهداف حرب تموز، إلى تحرير غزة.. وجعلتها أكثر محاصرة، بعد الحرب السورية، وتكوين طلائع مقاومة شعبية في الجولان السوري المحتل… لكنها بقيت لاعباً، قوياً، على مسرح العمليات، بقوة دبلوماسية النظام العالمي، مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وقوة الحديد والنار، عبر الاحتفاظ بالتفوّق العسكري في الجوّ.
عادت روسيا إلى الساحة من بوابة إرث «الاتحاد السوفياتي» العظيم (لكن السابق) وإرث بطرس الأكبر (آخر قياصرة آل رومانوف في روسيا). وكلا الإرثين قائمين على الحصة «الإستعمارية» لروسيا في أرض السلطنة العثمانية (سواء في الدردنيل والبوسفور، أو سوريا، التي ينتمي إليها لواء الاسكندرون وانطاكية، قبل خرائط سايكس – بيكو).
اما الولايات المتحدة الأميركية، التي تنفض عنها غبار (الحقبة الأوبامية)، التي ينظر إليها باعتبارها الأقل بياضاً، أو نزوعاً قهرياً استعمارياً، فعادت إلى المسرح من باب «العصا قبل الجزرة» معتبرة ان العقوبات، التي تبيد الخصم، ان لم يكن بقوة الحديد والنار، فبقوة الدولار، وأسلحته الفتاكة، كعملة وحيدة قادرة على العبث بكل مقدرات اقتصاديات العالم، سواء أكان صناعياً، أو ما بعد صناعي، أوروبياً، أو يابانياً، وصولاً إلى البرازيل، التي عادت إلى الحضن الأميركي الشمالي، بعد تصفية تجربة الرئيس لولا الاشتراكي.
من أدوات العبث الأميركي بسيادة الدول واقتصادياتها صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والإعمار.. فضلاً عن التحكم بأسعار صرف العملات الوطنية، بالتسعير على أساس الدولار.
وسط هذه الصورة، من العلائق السياسية الدولية والإقليمية وصراعاتها، تعاد عملية صياغة المشهد السياسي اللبناني، ضمن جملة من الخصائص، تعتبر، فيصل التفرقة بين المشهد قبل التسوية الرئاسية وبعدها..
1 – مع عودة بيروت، بعد نكبة دمشق السياسية والاقتصادية، إلى أن تكون مصرف المنطقة، والمستشفى وصاحبة الخدمات السياحية وملجأ النازحين واللاجئين، ونقطة الاستقرار النادرة في منطقة الاضطراب، لم يعد فريق الطائف الممثل بآل الحريري، هو صاحب الكلمة الفصل في الاقتصاد والسياسة.. يبرز الدور المسيحي، وعلى قاعدة «الإلتزام»، الذي غالباً ما يكون لفظياً، بالطائف، بقوة إلى الواجهة.. يسعى التيار الوطني الحرّ، ممثلاً برئيس الدولة، أو رئيس الجمهورية «القوي» لأن يعبّر عن السياسة الخارجية، ويعلن الحرب على الفساد، ويدفع لإنجاز الموازنة، ويتدخل بقوة بحركة الاقتصاد، سواء عبر لجنة المال والموازنة، أو وزير الاقتصاد، أو فريق الخبراء الذي يتولى العمل على معالجة نظام المديوينة إلخ..
2 – قبل التسوية الرئاسية، سعى التيار الوطني الحر الى تقاسم «مواقع النفوذ» المسيحي، على خلفية استعادة الشراكة، عبر اتفاق مع «القوات اللبنانية». إلاَّ أن تجربة الحكومة الحالية، بعد انتخابات أيار 2018، تقدّم معادلة مختلفة، الأمر في ما يتعلق بالقرار المسيحي، في الإدارة والسياسة والمال والأمن هي للتيار، عبر مدخل رئاسة الجمهورية، ولو أدى ذلك، إلى اشتباك سياسي على مستوى مجلس الوزراء، والإعلام، واللجان الوزارية، ومحاربة الفساد..
3 – هنا تطرح مسألة «الثنائيات الطائفية» مشكلة جديدة، من علامات مأزق النظام السياسي، ما بعد التسوية الرئاسية، فالمسيحيون يعانون من ذلك، والخطط الحكومية تتأثر بهذه الخلافات. وبالنسبة «للثنائية الدرزية» التي فرضتها التسوية الرئاسية، عبر تمثيل الوزير طلال أرسلان في الحكومة، ليطالب الآن بأن يسمي هو الحاكم الرابع أو الثالث في مصرف لبنان عن الطائفة الدرزية.
4 – وقل الأمر نفسه، في ما خصَّ «الثنائية الشيعية» وهي أم «الثنائيات الطائفية» التي تقاسمت العمل البلدي، والنيابي، والوزاري، وحتى الإداري ضمن «تفاهم داخلي»، حيناً، تمليه الاعتبارات الإقليمية، أو تناغم انتخابي، لابعاد الخصوم، أو تجاذب (على خلفية خيارات في الداخل غير متفق عليها)، وصولاً إلى توتر غير معلن على خلفية «الوضعية الاقليمية والدولية» للشيعة كطائفة في المنطقة العربية، وعلى المستوى الآسيوي، والإفريقي، فضلاً عن ديار الانتشار.
5 – مع الإزياحات الطائفية هذه (والأزياح هو تعبير في علم الجيولوجيا يتعلق بحركة طبقات الأرض)، تتحوّل الدولة في لبنان إلى محاكاة آخر النظريات السياسية، التي تسقط مفهوم الدولة في ممارسة الحكم أو السلطة كتعبير سيادي، إلى ما يُمكن وصفه بـ«تعبير الحكم المحلي»، ذلك لأن «مصطلح الحكم» أو الحكومة لا يعني أكثر من تطبيق السلطة في المحليات، في حين ان مصطلح «الدولة» يعني سلسلة من العلاقات الأكثر شمولاً، تتضح من خلالها السياسة الرسمية للمحليات..
6- وعليه، إذا كان التيار الوطني الحر ينزع إلى ممارسة مفهوم الدولة، عبر حصر السياسة العامة، والعلاقات الخارجية للدولة بيد رئيس الجمهورية، فإن ممارسة الحكم، أو المحليات اليومية، يتجاذبها اتجاهان: الأول، بإعطاء الطوائف حق تسمية كبار الموظفين، وحق «الفيتو» من داخل الطوائف نفسها عبر نظام «الثنائيات»، والثاني، تحويل التيار العوني إلى مركز جذب الثنائيات الطائفية، وتحويله إلى مرجع بت النزاعات داخل الثنائيات على مستوى القرار السياسي للحكومة أو حتى للدولة..
ضمن هذه «الازياحات» في التحوُّل غير المفاجئ، في المشهد السياسي، يجزم التيار الوطني الحر، بقدرته على حسم الخيار في ما يتعلق بتمرير «خطة الكهرباء»، المدعومة من غير شريك في السلطة، ولو اقتضى الأمر، رفع «الحصانة المالية» إلى سلطة خارج المحليات اللبنانية، هي البنك الدولي، الحاضر الدائم، عبر موظفين كبار فيه، أو حلقة مستشارين، جعلت من بيروت نقطة ربط بين نيويورك وعواصم الاستقرار والاضطراب في المنطقة العربية وغرب آسيا، على وجه العموم..
في الأرض الرخوة اللبنانية، وحتى العربية، تختبر المحليات اللبنانية، قدرتها على تثبيت الاستقرار، كما تثبيت سعر صرف الدولار (بالاذن من الوزير منصور بطيش) عبر آليات يعتمدها رياض سلامة، المتحرر حتى الآن من سلطة المحليات اللبنانية، عبر نموذج شراكة جديد، قيد الامتحان والخاضع باستمرار لتعديلات تحاكي التوجه الدولي على هذا الصعيد؟!