ما يجري في البلد تحت شعار مكافحة الفساد أكثر من خطير. مصدر الخطورة ليس في الشعار بحد ذاته، بل بما حرّكه هذا الشعار من مياه في وحول الفساد الآسنة في بلد تعطّلت مؤسساته الرقابية وقضاؤه بشكل كبير منذ اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975.
ما الذي يجري اليوم بوضوح ومن دون قفازات؟ ما نشهده هو عملياً سلسلة صراعات على أكثر من مستوى: صراع قضائي- قضائي، صراع بين قضاة والأجهزة الأمنية، وصراع حتى بين الأجهزة الأمنية!
ما يجري، في جانب منه، إيجابي ويجب استكماله لناحية كشف كل الفاسدين على المستويات القضائية والأمنية ومحاسبتهم ومحاكمتهم، مهما علا شأن الفاسدين وموقعهم، على أمل أن نصل في هذه التجربة يوماً إلى محاسبة السياسيين الفاسدين مهما علا شأنهم أيضاً. ولكن في جانب آخر مما يجري كوارث فعلية تتعلق بما بقي من ثقة المواطن بدولته ومؤسساته وقضائه وأجهزته.
لا ليس تفصيلاً عابراً ما يجري بين مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية ومدّعي عام جبل لبنان، ولا ما يجري بين مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي. فنحن نتحدث عن المدعي العام في المحكمة العسكرية التي لا يزال القانون اللبناني ينيط بها مسائل وقضايا لا تُعد ولا تُحصى، وعن المدعي العام في جبل لبنان الذي تقع تحت سلطته أعلى نسبة من القضايا في لبنان مقارنة ببقية النيابات العامة، وعن الضابطة العدلية الأكثر نشاطاً التي تتابع الأكثرية الساحقة من القضايا بإشراف القضاء طبعاً.
حين يحصل الاشتباك الذي نتابع فصوله بين القاضي بيتر جرمانوس من جهة وشعبة المعلومات من جهة ثانية والقاضية غادة عون من جهة ثالثة، وبغض النظر عمّن هو المسؤول عن هذا الاشتباك ومن هو المحق ومن هو المتورّط، وحين يتم استعمال الإعلام بطريقة فجّة ووقحة للتسريبات والتراشق المتبادلين ونبش الملفات وضرب صدقية الأطراف المعنية، وحين تغيب المرجعية القضائية التي يُفترض أن تحسم ما يجري، يكون المواطن اللبناني هو الضحية على أكثر من مستوى:
ـ مستوى التشكيك بكل ما يجري وبكل المسؤولين القضائيين والأمنيين، بغض النظر عن أي حقائق محتملة. فلا يعود يعنينا “الحق مع مين أو على مين”، بل نسأل أنفسنا عندها إلى من نلجأ طالما التشكيك بالجميع وبكل شيء هو سيد الموقف؟
ـ مستوى السؤال الجوهري عمّن يحكمنا في ظل الاتهامات المتبادلة والتراشق العنيف واستخدام التسريبات الإعلامية التي تضرب صدقية كل شيء في الصميم.
ـ مستوى وجود الدولة والانتماء إليها في ظل اقتناع عميق بدأ يترسّخ لدى اللبنانيين بأنهم يقبعون تحت حكم “مافيا” لا أحد يعرف أين تبدأ ولا أين تنتهي!
لا ليس جميع القضاة فاسدين في لبنان.
لا ليس جميع المسؤولين الأمنيين والضباط فاسدين في لبنان.
لا ليس جميع السياسيين فاسدين في لبنان.
لكن الثابت أن النظام القائم في لبنان أجهز على إمكانية غربلة الفاسدين وإبعادهم عن مراكز القرار على مستوياته المختلفة ومساءلتهم ومحاكمتهم على ما ارتكبوه. لذلك، وباختصار وبكل بساطة، نعلن وحتى إشعار آخر، أننا كفرنا بكل شيء في هذا البلد، وفقدنا ثقتنا بجميع المسؤولين حتى إثبات العكس وحتى معرفة الحقائق كاملة ومحاسبة جميع الفاسدين.
أخشى ما أخشاه أن نكون دخلنا في صراع تحكمه معادلة “تفضحني فأفضحك”… والتي تنتهي عادة بلفلفة كل شيء على حساب الوطن والمواطن. نعم كفرنا بكل شيء!