كتبت ملاك عقيل في صحيفة “الجمهورية”:
«الجبهات» المفتوحة لرصد مكامن الهدر والفساد في «هيكل» الدولة ناشطة على أكثر من مستوى، لكن بالتأكيد لن يجد أحد من القيّمين على المال العام وقتاً لإجراء مسح للتلزيمات السابقة «المشبوهة» والمليارات التي ذهبت هدراً، لأنّ الحكومات المتعاقبة «طوّعت» قانون المحاسبة العمومية، وفق مصالحها، فلجأت الى خيار الصفقات بالتراضي، من دون إمرار الغالبية الساحقة من المشاريع، عبر إدارة المناقصات. «المنتفعون» من المال السائب كُثُر، وحتى الآن لا رغبة سياسية جدّية في إقفال مزراب الاحتكارات و«أمرائها» المسيطرين على معظم المشاريع والعقود.
آخر عروض فضائح المناقصات بالتراضي البند 14 على جدول أعمال مجلس الوزراء في جلسة 4 نيسان الماضي، في شأن «طلب وزارة السياحة الموافقة على عقد اتفاق بالتراضي مع شركة visit Lebanon وتجديده سنوياً».
هذه عيّنة من التساهل في محاولة لإمرار المشاريع من فوق رأس إدارة المناقصات. أما المعركة الكبرى اليوم فهي الضغط الذي تمارسه جهات سياسية لإخضاع دفتر شروط تلزيم مشاريع معامل الكهرباء، من ضمن الخطة المقرّة، الى إدارة المناقصات.
في السنوات الماضية تمّ التخلي بنحو شبه تام عن الصفقات العمومية، عبر إدارة المناقصات، من خلال اللجوء الى مناقصات بعيداً من الرقابة مع ما يعني ذلك من فساد غير مقنع.
إستناداً الى نص المادة 121 من قانون المحاسبة العمومية، فإنّ المناقصة العمومية هي الطريق العادية لإجراء الصفقات العمومية، بحيث يمكن الحصول على أدنى الاسعار توفيراً للمال العام. غير أنّ من الممكن في بعض الحالات عقد الصفقات العمومية بطريقة المناقصة المحصورة، او استدراج عروض، أو بالتراضي…
عملياً، الصفقات بالتراضي هي الأحبّ الى قلب الطبقة السياسية، ما يجعل منها أحد أهم أبواب الهدر. إدارة المناقصات مرتبطة بالتفتيش المركزي، يرأسها مدير عام ولديها جهاز فني لدراسة المناقصات، لكن قيمة هذه المناقصات، وفق دراسة «الدولية للمعلومات» لا تمثل سوى أقل من 10% من قيمة أشغال الدولة. إذ انّ أهل الحكم يستسهلون اللجوء الى التراضي بدل المناقصة العمومية، وأكثريتها كانت تتمّ من خلال مجلس الانماء والاعمار، والوزارات، خصوصاً المالية والداخلية والاشغال إضافة الى مؤسسات أمنية وعسكرية…
بالتأكيد، تملك إدارة المناقصات في هيكليتها ما يحدّ من فعاليتها، حيث يصل الشغور الى 50% من ملاكها الذي يتألف من 18 وظيفة، إضافة الى غياب العمل بالسعر التقديري السرّي الذي يسمح للإدارة بمعرفة سعر الكلفة لتقدير قيمة الأشغال، وعدم إشتراك إدارة المناقصات في كل مراحل التلزيم ابتداءً من تقديم العروض حتى التنفيذ، وعدم دفع تعويض لجان المناقصات…
ووفق جدول أعدّته «الدولية للمعلومات»، بلغت قيمة الصفقات الملزّمة من خلال المناقصات العمومية بين الأعوام 2004 و2017 ما مجموعه 3 آلاف مليار ليرة، وهي توازي 10% فقط من قيمة أشغال الدولة مقارنة بالعقود التي وقّعتها الدولة بالتراضي بين 2012 و2017 وتساوي 90% من قيمة أشغال الدولة!
عملياً، تحدّد المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية حالات عقد اتفاقات بالتراضي مهما كانت قيمة الصفقة. ويعقد الصفقات بالتراضي المدير او رئيس المصلحة، إذا كانت قيمة الصفقة لا تتجاوز 10 ملايين ليرة، والمدير العام إذا كانت القيمة تزيد عن 10 ملايين ليرة ولا تتجاوز 35 مليون ليرة والوزير المعني في بقية الحالات.
ويتبين، انّ بين 2004 و2017، «حلّقت» الصفقات بالتراضي عام 2009 وسجّلت 1,192 مليار ليرة، تليها 886 مليار ليرة عام 2014، 335 ملياراً عام 2006، 212 ملياراً عام 2017، 191 ملياراً عام 2005، 144 ملياراً عام 2004، 60 ملياراً عام 2007، 16 ملياراً عام 2008.
وفيما حدّدت المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية حالات عقد الاتفاقات بالتراضي وحصرتها بـ 12 حالة، منها ما يتعلق «باللوازم والاشغال والخدمات التي يقرّر مجلس الوزراء تأمينها بالتراضي بناءً على اقتراح الوزير المختص»، فإنّ هذا البند تحديداً وسّع بيكار اللجوء الى «التراضي» بنحو أتاح التفسير الملتوي لقانون المحاسبة العمومية، فتحوّل الاستثناء قاعدة، وباتت الصفقات بالتراضي تأتي على رأس خيارات الحكومات المتعاقبة.
يُذكر أنّ البيان الوزاري للحكومة الحالية نصّ عموماً على «تحديث قانون المشتريات العامة والمناقصات وإعداد وإقرار دفاتر الشروط النموذجية لتعزيز الشفافية».
صحيح أنّ حكومة العهد الاولى لم تسجّل «رقماً» عالياً، مقارنة مع الحكومات السابقة، في تمرير الصفقات بالتراضي، إلاّ أن سقوط إقتراح النائبين نواف الموسوي وهاني قبيسي في مجلس النواب في تشرين الثاني الماضي والقائم على «إخضاع الصفقات العمومية في الإدارات العامة والمؤسسات العامة والبلديات واتحادات البلديات وسائر الهيئات واللجان وأشخاص القانون العام، التي تتولى إدارة مال عام، لصلاحيات إدارة المناقصات، بهدف طي مرحلة الفوضى في صرف الأموال العامة»، أعطى إشارة سلبية جداً.
فمؤسسة الكهرباء وحدها بلغت قيمة صفقاتها التي أُجريت خارج إدارة المناقصات، عام 2016 نحو 3000 مليار ليرة. أما مجلس الإنماء والإعمار، فقد أجرى عام 2015 صفقات «بنحو 700 مليار ليرة، خارج إدارة المناقصات»، حسب ما ورد في الأسباب الموجبة لاقتراح القانون الذي نصّ على «إخضاع كل الصفقات العمومية التي تتجاوز قيمتها 100 مليون ليرة، من دون استثناء، إلى إدارة المناقصات».