تعرف اللبنانيون على رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري من خلال مؤسسات ظهرت في أواخر سبعينات القرن الماضي حملت اسم الرجل أو عرف أن له علاقة مباشرة بها.
وعلى الرغم من أن العديد من تلك المؤسسات ارتبطت باسم الوافد الجديد آنذاك على السياسة اللبنانية، إلا أن أبرزها كانت “شركة أوجيه” و”مؤسسة الحريري”.
ظهر الحريري كشخصية آتية من عالم الأعمال يعمل على تخليص بلده من براثن الحرب الأهلية واستعادة الصورة الجميلة للبنان.
وفيما تعوّد اللبنانيون على التعايش مع حالة الحرب ومشاهد الدمار والمركبات العسكرية وظواهر السلاح والتسلح، جاء الحريري بجرافاته وعتاد البناء والإعمار وأدوات إزالة كوارث الخراب.
غير أن بناء الحجر في عرفه كان يحتاج إلى بناء البشر. البعض في هذا الإطار يتحدث عن “جيل الحريري”.
ظهرت “مؤسسة الحريري” عام 1979 في مسقط رأس رفيق الحريري، صيدا، عاصمة جنوب لبنان. عرف للمؤسسة نشاط محدود في المدينة وفي منطقة الجنوب. غير أن المؤسسة عرفت لاحقا حين تحولت إلى دينامية عملاقة نفّذت برنامجا طموحا لتقديم منح دراسية للطلاب اللبنانيين في الخارج.
حدث هذا التحول عام 1983، أي قبل 6 سنوات من إبرام الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) في مدينة الطائف في السعودية عام 1989.
ويعتبر مشروع رفيق الحريري التعليمي أهم إنجازات الرجل الذي خاطب من خلالها المجتمع اللبناني عن طريق التحصيل العلمي، خصوصا ذي المستوى العالي في كبريات الجامعات بأنحاء العالم.
تحولت المؤسسة الصيداوية إلى مؤسسة لبنانية انتقلت إدارتها إلى العاصمة بيروت. وتتحدث الإحصاءات عن أن “مؤسسة الحريري” وفرت تمويل المنح الدراسية الجامعية لطلاب بلغ عددهم 35 ألف طالب من الشباب اللبناني من كافة الطوائف الدينية، ممّن التحقوا بعدد من الجامعات المرموقة في الخارج؛ في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا وإيطاليا، وقد فاق إجمالي ما أنفق في هذا العمل الخيري مليار ونصف المليار دولار.
غير أن جهود “مؤسسة الحريري” أيقظت قلقا لدى كل الطبقات السياسية اللبنانية التي فوجئت بسلوك جديد يستخدمه رجل طموح، على نحو يهدد النفوذ التقليدي لبيوتات سياسية داخل الطوائف اللبنانية.
مؤسسة الحريري كانت توزع منحا دراسية على الطلاب اللبنانيين من مختلف الطوائف الدينية دون أي تمييز سياسي أو مناطقي أو مذهبي
وكمن مصدر القلق آنذاك في أن “مؤسسة الحريري”، وفقا لتعليمات مؤسسها، كانت توزع المنح الدراسية على الطلاب اللبنانيين دون أي تمييز سياسي أو مناطقي أو مذهبي، وأن الاستفادة من هذه المنح لم تكن حكرا على طلاب الطائفة السنية التي ينتمي إليها الحريري، كما هو المعتمد من قبل بعض المموّلين اللبنانيين الذين كانوا يستخدمون الجمعيات الخيرية للنفاذ إلى السياسة داخل طوائفهم.
واحتار المراقبون في تفسير المغزى السياسي لـ”تسلل” الحريري نحو كافة الطوائف اللبنانية من خلال منحه الدراسية. وقد كان سورياليا أن يستفيد طلاب لبنانيون من المنح الدراسية لـ”مؤسسة الحريري” فيما قادة الطوائف الذين ينتمون إليها هم خصوم للحريري، لا بل قد ظهر لاحقا أن البعض من أبناء السياسيين اللبنانيين ناصبوا رفيق الحريري الخصومة والعداء وقد كانوا من ضمن الطلاب المبتعثين لـ”مؤسسة الحريري”.
غير أن مبادرة الحريري في شقيها الخيري والسياسي لم تستطع تغيير البنية السياسية المتشظية طائفيا. ولم يستطع الحريري مصادرة ولاءات تقليدية لطالما انجذبت نحو الزعامات التقليدية لطوائفها أو تلك التي استحدثتها الحرب الأهلية.
وباستثناء الاستقطاب اللافت الذي شكله الحريري داخل الطائفة السنية في لبنان، فإن عبوره نحو الطوائف الأخرى بقي محدودا، يكاد يكون تكنوقراطيا، ليس بسبب فشل مقارباته السياسية والخيرية التربوية، بل بسبب المقاومة الشرسة التي مارسها أمراء السياسة والحرب على رفيق الحريري، والذين استقووا بالوصاية السورية لوضع حدود لطموحات الرجل.
فكان أن توقف الحريري عن طرق أبواب الطوائف الأخرى، لاسيما الشيعية، وكان أن منع الرجل من زيارة مناطق سنية لبنانية في البقاع والشمال اللبنانيين باعتبارهما ضمن مناطق تدخل تحت النفوذ المباشر لدمشق.
وإذا ما حاول المراقب رصد مصير جيل الخريجين الذين استفادوا من منح “مؤسسة الحريري”، فإن الاستنتاج يقود إلى أن “جيل الحريري” لم يكن بالضرورة حريريا، وإن تأثر بظاهرة رفيق الحريري.
وقد يجوز الحديث عن “جيل الحريري” بشكل أدق داخل الطائفة السنية بالمعنى العددي للكلمة، لكن هذه التسمية لا ترتبط فقط بخريجي “مؤسسة الحريري”، لكنها تنسحب على كافة الكتلة الاجتماعية الشابة التي شهدت سنوات صعود رفيق الحريري وفجعت بمقتله عام 2005.
وإذا ما عرفت المؤسسات الإدارية والسياسية والبلدية اللبنانية أسماء أتت مباشرة من لوائح الخريجين الذين استفادوا من برنامج المنح الدراسية لـ”مؤسسة الحريري”، إلا أن جل الخريجين انتشروا داخل مؤسسات القطاع الخاص، سواء في لبنان أو في الخارج. بمعنى أن “مؤسسة الحريري” ساهمت في توسيع مساحة الخريجين دون أن يرتبط الأمر بخلق واقع لبناني جديد على المنوال العابر للطوائف الذي كان يبشر به رفيق الحريري.
ويسجل لرفيق الحريري، سواء تقصّد ذلك أم لا، أنه لم يربط منح مؤسسته بولاء المستفيدين منها. والظاهر أن الرجل كان يريد لتلك المنح الدراسية أن تخلق دينامية سياسية أراد استثمارها داخل تجربته في الحكم والسياسة، كما كان يطمح إلى أن توفر عودة الخريجين مناخا اجتماعيا وبيئة علمية قادرة على حمل مشروعه السياسي التنموي والانخراط داخله.
ويعتبر المراقبون أن الحريري عمد إلى تحضير الأدوات وخلق جيل جديد متخلص من مفردات الحرب الأهلية وقواعدها الايديولوجية. غير أن اصطدامه بمشروع سياسي محلي إقليمي مضاد، كبح جماح ذلك المشروع وتلك الطموحات إلى أن تم اغتياله. ويضيف المراقبون أن غياب الرجل قطع ذلك التواصل المفترض بين دينامية المنح الدراسية ودينامية تشكيل قوة ضاربة تتسلح بها الحريرية السياسية.
وتلاحظ بعض المراجع السياسية التي واكبت رفيق الحريري، أن مبادرة “مؤسسة الحريري” التربوية لم تكن إلا تفصيلا داخل مشروع الحريري الكبير، وأن الجيل الذي أراده الحريري مواكبا لمسعاه لم يكن يرتكز على خريجي مؤسسته إلا بقدر محدود جدا.
ويضيف هؤلاء أن خريجي “مؤسسة الحريري” عاشوا تجاربهم الشخصية والسياسية والاجتماعية والمهنية بشكل منفصل عن الحريرية السياسية، وأن كثيرا منهم اختار البقاء خارج البلاد.
وتلفت هذه المراجع إلى أن هذه الحقيقة ربما هي تلك التي قد يكون سعى رفيق الحريري إليها، بمعنى أن يسهم عشرات الآلاف من الخريجين المنتمين إلى عشرات الآلاف من العائلات اللبنانية في إحداث تطور نوعي ما داخل المجتمع اللبناني، وليس تطورا داخل الحريرية السياسية بالذات.