كتب البروفسور فريد البستاني في صحيفة “الجمهورية”:
في مقال سابق تناولت قضية الإفصاح عن الحسابات المالية والشفافية في وضعية ممتلكات وأموال المسؤولين عن الشأن العام، كشرط من شروط بناء الثقة في تعامل المسؤولين مع المال العام وإمتناعهم عن صرف النفوذ.
واقترحت إعادة النظر بشمولهم نظام السرية المصرفية، والخلفية في ذلك بسيطة، وهي أنّ نظامنا القانوني الحالي يقوم على اعتبار أيّ تصريح مالي أو إطلاع على ممتلكات وأموال المسؤولين في الدولة بمراكزهم المختلفة هو عمل تحيقي يجب أن يبدأ بتوجيه الإتهام، ويمر برفع الحصانة، سواء الحصانة التي تمنع ملاحقة موظفي الدولة دون موافقة رؤسائهم، أي الوزراء، أو الحصانة النيابية التي تمنع ملاحقة النائب دون موافقة مجلس النواب، أو حصانة الرؤساء والوزراء التي تحصر ملاحقتهم أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بعد توجيه الإتهام لهم من ثلثي النواب.
ما نريده هو نقل ثقافة الشفافية من كونها ثقافة سلبية عدائية تعبّر عن إقتحام للخصوصية يجب أن يبرّره إتهام، توضع في طريقه تعقيدات تجعل الملاحقة أمراً أقرب للإستحالة، إلى ثقافة إيجابية يلتزمها من يتعاطى المسؤولية العامة إستباقا لأيّ إتهام ويمعزل عن وروده، ليسهم في إرساء قواعد ثقة مصابة بالكثير من نقاط الضعف بين الدولة، التي يمثلها المسؤولون بمختلف مستوياتهم، وبين المواطن، ولا زلنا لا نرى سبباً يحول دون إلزام كل مسؤول في الدولة بالإفصاح العلني عن أمواله وممتلكاته سنوياً وطوال فترة تحمله المسؤولية العامة، خصوصاً أنّ ما لمسناه وسمعناه حول الإستعداد للسير بقانون يرفع السرية المصرفية عن المسؤولين والموظفين، يضع الأمر في دائرة أخرى ستعقّد إمكانية إقرار إقتراح القانون المستند إلى هذه الدعوة الذي تقدّم به تكتل لبنان القوي من ضمن السعي لرزمة قانونية تسهم في عملية الإصلاح ومكافحة الفساد، حيث بادرت قوى نيابية فاعلة إلى التحذير من تأثيرات رفع السرية المصرفية، ولو كان محصوراً بالمسؤولين في الدولة، على النظام المصرفي، بينما يبقى الإفصاح الدوري عن أموال وممتلكات المسؤولين ووضع التقارير الذاتية حولها في تصرف الراي العام تقليداً إيجابياً من تقاليد الشفافية وبناء الثقة، والهدف في نهاية المطاف هو الوصول لما يحقق الهدف ويتفادى التعقيدات، وليس سراً أنّ الصالونات اللبنانية مليئة بالأحاديث وربما الشائعات عن الثروات الخيالية التي راكمها مسؤولون كبار وصغار في الدولة عبر عمليات صرف نفوذ رافقت توليهم المسؤولية، ولا يمكن تبديد هذا الإنطباع الرائج وإستبداله بالثقة إلّا بصدمة إيجابية نحاول البحث الصادق عن مدخل لإحداثها، كما نسعى لأن يحظى بتوافق سياسي جامع.
الإنطباع الذي سيتولّد من رفض كل صيغ تحقيق الشفافية المالية للمسؤولين الذين يتولون إقرار الموازنات والإشراف على إنفاقها، وهي أموال الناس، هو المزيد من إنعدام الثقة، بين الدولة ورموزها ومسؤوليها من جهة، والمواطنين من جهة مقابلة، لا بل توليد الثقة اليقينية بأنّ وراء الأكمة ما وراءها، وانّ هذا التشبّث بإحاطة أموال وممتلكات المسؤولين بالعتمة يهدف للتستر على إرتكابات سيسهل كشفها وتهون ملاحقتها، إذا وضعت في الضوء، والتعتيم هنا هو الشرط المتمم للملاحقة شبه المستحيلة بسبب فقدان المعلومات وصعوبة الحصول عليها، والسؤال البديهي هو أليست كشوف الأموال والممتلكات الخاصة للذين يتولون المال العام، هي من المعلومات التي يجب شمولها بقوانين حق الوصول للمعلومات، التي تشكل مقدمة كل مكافحة جدّية للفساد؟
اللبنانيون يمكلون من الذكاء ما يكفي للإستنتاج، أنه بدون أرقام ووقائع حول أموال وممتلكات المسؤولين يستحيل تطبيق قانون من اين لك هذا، أو توجيه الإتهام بالإثراء غير المشروع، وأنّ ربط الحق بالوصول لهذه الأرقام بوجود إتهام، كما ربط توجيه الإتهام بالحصول على الأرقام، هو نوع من التذاكي المقصود لجعل العمليتين مستحيلتين، وتركهما دائرة مغلقة كسؤال البيضة والدجاجة، فهل هذه رسالة إيجابية لبناء علاقة ثقة بين الدولة ومواطنيها، في وقت حرج لإقتصادنا، تدور خلاله الأسئلة الكبرى حول هدر المال العام، وتتصدر الخطاب السياسي للقوى الفاعلة شعارات مكافحة الفساد؟