كتبت البروفسور غريتا صعب في صحيفة “الجمهورية”:
يبدو انّ للحكومات تاريخاً طويلاً في الاقتراض وعدم سداد الديون، وأول تسجيل لهكذا عملية حدث في القرن الرابع قبل الميلاد عندما تخلفت 10 مدن يونانية ولم تَف بقروضها لمعبد ديلوس.
لا تزال هناك قواعد غير واضحة لِما يحدث عندما تتخلف الدول عن دفع ديونها السيادية، علماً انه، وفي فترة سابقة، أصدر صندوق النقد الدولي خطة لتطوير سياسات الاقتراض مما يساعد في المدى البعيد على توفير بعض الوضوح لهذه العملية.
منذ العام 1970 استطاعت 70 حكومة إعادة هيكلة ديونها للمصارف وحاملي السندات، وهذه العملية لها كلفتها حيث انها تبعد الحكومات هذه عن رؤوس الأموال، وبالتالي تفرض عليهم فوائد أعلى. إنما، وفي كثير من الاحيان، هذه العواقب قصيرة الأجل، لاسيما في اليونان، حيث أصدرت سندات بعد سنتين فقط من انهيارها الافتراضي، كذلك دولة الاكوادور التي رفضت الوفاء بديونها في العام 2008 وعادت الى الاسواق في غضون أشهر.
والاهم من ذلك انّ الأدلة تشير الى انّ هناك «Reprofiling» للدين، بما معناه إعادة رسم ملامح بشكل دقيق نسبياً حيث يمتد نضج السندات، على انّ المبالغ المستحقة وفوائدها تبقى كما هي أمراً أقل ضرراً على عوائد السندات والوصول الى الاسواق في المستقبل، كذلك لعملية تصنيف الدول.
وفي بعض الاحيان تتخذ الحكومات اجراءات يائسة لتتجنّب إعادة الهيكلة، كإصدار سندات قصيرة الاجل وبفوائد كبيرة جداً. وكثيراً ما باركَ صندوق النقد الدولي هكذا عملية، وهو الآن يدفع لأوكرانيا مليارات الدولارات في خدمة سنداتها الخارجية، ومعظمها قصيرة الاجل وبفوائد مرتفعة جداً.
لذلك، قد تكون عملية إعادة رسم ملامح الديون خطة عقلانية في تسوية أزمات الدول، وعلى ما يبدو قد تكون الطريقة العقلانية الوحيدة لتصفية هكذا أزمات.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هو دور البنك المركزي وقدرته في تفادي أزمة الديون السيادية؟ والجواب الأكيد على هذا السؤال يبقى انّ دوره محدود نسبياً، علماً انّ خبرة اوروبا في هكذا اوضاع تعكس الجواب هذا، لاسيما عندما تدخّل البنك المركزي الاوروبي لإنقاذ منطقة اليورو من الانهيار في وقت أبكر بكثير من العام 2012، بما معناه في العام 2010 عندما تخلّفت اليونان عن الايفاء بالتزاماتها وتعرضت للخروج من منطقة اليورو، لاسيما انّ ذلك سوف يشكّل اول حجارة الدومينو. وعلاوة على ذلك سيعرّض المصارف الفرنسية والألمانية والبنوك الاخرى الى نكسات وقد يؤدي الى انهيار مالي (تضاربت الآراء بشأن هذا الأمر بين النخَب السياسية في أوروبا).
والأمر قد يكون مقلقاً والنتيجة موضوعية، اذ انّ البنك المركزي الاوروبي قد يعجز في حال نشوب أزمة ديون سيادية واسعة عبر منطقة اليورو، بنفس الطريقة التي يعجز فيها الفدرالي الاميركي او بنك اليابان عن تجنّب أزمة الديون في بلدانهم، وقد تفقد معه البنوك المركزية السيطرة على ديونها.
وضع ارتفاع الديون السيادية في جميع أنحاء العالم المستثمرين والحكومات في خطر Sovereign Default، وأثار ذعر تكرار الأزمة المالية 2007 – 2008 وأزمة الديون في منطقة اليورو وما أعقب ذلك من تراجعات اقتصادية. لكنّ عدم إمكانية الدول من دفع استحقاقات ديونها هو أمر شائع، وقد لا يؤدي الى أسوأ السيناريوهات كما يتوقع الكثير.
وهنا بعض الحقائق عن التخلفات السيادية التي قد تجعلك تعيد النظر في العديد من الأمور، لاسيما التالية:
1 – العديد من الدول لها سجل ناصع ودفعت التزاماتها بشكل ملتزم، لاسيما كندا والدنمارك وفنلندا والنروج وسنغافورة وسويسرا وانكلترا. وهذا لا يعني انّ هذه الدول لم تتعرّض لمشاكل مالية وانّ الازمات المصرفية امر شائع على سبيل المثال لا الحصر، فإنكلترا عانت 12 ازمة مصرفية منذ عام 1800 في متوسط يبلغ حوالى واحدة لكل 17 عاماً، مما يعني انّ أزمة الديون السيادية ليست الوحيدة التي يمكن ان تعانيها الدول.
2 – وضعيه دول PIIGS، وهي البرتغال وايرلندا وايطاليا واليونان واسبانيا، والتي هي على قائمة المراقبة كونها الاكثر عرضة لأزمة ديون. وتجدر الإشارة هنا الى انّ البرتغال تخلّفت 4 مرات عن التزامات الديون الخارجية في اوائل تسعينات القرن الماضي، كذلك اليونان تخلفت 6 مرات منذ تحقيق الاستقلال في العشرينات من القرن التاسع عشر، وتحتلّ اسبانيا المرتبة الاولى مع تخلفات عديدة.
وإذا ما تطلّعنا الى التاريخ القريب، نرى انّ اليونان لم تدفع 15,5 مليار يورو مستحقات صندوق النقد الدولي في العام 2015، وقد اعتبره الجانبان تأخيراً في الدفع وليس تخلفاً عن الدفع.
3 – أميركا اللاتينية كونها ارض خصبة لهكذا سيناريو. ويكفي النظر الى دول اميركا الجنوبية والوسطى، وآخرها كانت فنزويلا التي تخلفت عن دفع سنداتها في العام 2017، إضافة الى عدد تخلفات البرازيل وكوستاريكا والاكوادور في آخر 200 سنة.
4 – الولايات المتحدة الأميركية وهي في تخلف افتراضي تقني، وإذا كان التاريخ لا يعتبر انّ الولايات المتحدة تخلفت يوماً، إنما وفي بعض الاحيان وحسب تعبير دقيق لهكذا عملية فإنها تخلفت في الواقع، وآخر هذا التخلف كان في العام 1979 حيث لم تستطع الحكومة أن تسدد المدفوعات في حينها على أجزاء ثلاثة من سندات الخزينة، بسبب مشاكل تشغيلية في وزاره المالية، إنما عادت ودفعتها لحاملها.
5 – التخلف قد يكون في بعض الاحيان متعمداً، وليس بالضرورة نتيجة نقص في الموارد المالية. وهكذا كانت وضعية الاتحاد السوفياتي في العام 1918 حيث تبرّأت الحكومة من جميع الديون التي أصدرتها الحكومة القيصرية السابقة، وقد استمرت هذه الحالة حتى عام 1986.
قد تبدو الاوضاع مخيفة للعديد من المستثمرين، نظراً للتطورات الأخيرة التي شهدتها الاسواق المالية في أواخر عام 2018 واوائل عام 2019. ولكن، وفي دراسة اكثر عقلانية ومتابعه لسياق الاحداث، قد تكون الامور قاتمة للغاية إنما النظام المالي العالمي قد نجا من ذلك سابقاً.
أخيراً، بالنسبة الى دور المصارف المركزية وبعيداً عن الهندسات المالية والتي هي موضع جدل، فإنّ عملية Reprofiling قد تكون تجميلية وضرورية، وحتماً بمساعدة القطاع المصرفي المحلي كونه يملك معظم هذه السندات.