كتبت ليا القزي في “الاخبار”:
بات بإمكان آل الحريري ترك طرابلس بسلام، والعودة إلى «المركزية»، بعدما انتهت الانتخابات الفرعية. إذا كانت الغاية من الاستحقاق «مُجرّد» فوز ديما جمالي بالمقعد، يُمكن القول إنّ تيار المستقبل حقّق غايته. أما إذا كان الهدف أن يُثبت أنّه الممثل الأول للطائفة السنية، فقد مُني بخيبة أمل كبيرة، رغم تكاتف كلّ قيادات المدينة حوله.
أمام ثانوية جبران خليل جبران في الزاهرية، وقفت ديما جمالي تلتقط صور «سيلفي» مع مندوبي ماكينة النائب محمد كبارة. كانت تهمّ بالصعود إلى سيارتها، حين انطلق التصفيق والهتاف: «أبو العبد… أبو العبد… أبو العبد…». لماذا تهتفون باسم كبارة فيما جمالي هي المرشحة؟ «ليش نحنا كرمال مين نازلين؟»، يُجيب أحد أنصار كبارة الذين حرصوا على تظهير حضورهم في الشارع أمس بشكل كبير، فكانوا، تقريباً، أمام كلّ مركز اقتراع وفي كلّ زاوية، رافعين صور «أبو العبد» وابنه كريم. خطوة اعتبرها كثر رسالة من النائب الطرابلسي إلى تيار المستقبل أولا، والعائلة ثانياً (بعد ترشح سامر كبارة وانسحابه)، مفادها أنّه موجود ولن يترك الساحة. لم يكن «الكبّاريون» وحدهم الذين انتخبوا جمالي كرمى لتمنيات زعيمهم.
«أشرف ريفي إذا بقلّلي انتخب الشيطان، بنتخبو»، يقول خمسيني في شارع المدارس – الزاهرية، من دون أن يجد حرجاً في السخرية من جمالي لأنّها لا تعرف طرابلس، «لما وصلت على التبانة سألت إذا هيدا المخيّم»! يبلغ التناقض لدى الرجل ذروته حين يتهم رئيس الحكومة سعد الحريري بالمشاركة في «المؤامرة على الطائفة السنية». لماذا تنتخب تيار المستقبل إذا؟ «بسّ أشرف (ريفي) اليوم معن»!
أحد الشبان في قطاع شباب «تيار العزم» يؤكد «أننا هنا تلبية لتمنيات الرئيس (نجيب ميقاتي)»، مشيراً الى أنه يُحاول إقناع الناخبين بالاقتراع لجمالي «كونها دكتورة جامعية وابنة رشيد جمالي الذي قام بانجازات كثيرة في طرابلس». من أنجز أكثر: هو أم ميقاتي؟ «أكيد الرئيس»، يُجيب الشاب ضاحكاً، هو الذي لم يكن مقتنعاً بالسردية التي قدمها للتسويق لجمالي. علماً أنّ «المستقبل» بقي طيلة ساعات أمس يشكّك في صدق نوايا تيار العزم.
باستثناء تيار الكرامة وجمعية المشاريع، عملت معظم القوى السياسية الرئيسية على الحشد لصالح التيار الأزرق. تحالف عريض جمع رئيس حكومة حالياً، ورئيسَي حكومة سابقين (ميقاتي وفؤاد السنيورة) ووزيرين سابقين (أشرف ريفي ومحمد الصفدي)، وحزب القوات اللبنانية الذي عمل عناصره داخل ماكينة «المستقبل». لم يكن المطلوب منهم كثيراً: مجرّد أن تفوز السيدة الشقراء بالكرسي… ولو بفارق صوتٍ واحد. فانتهت الانتخابات بنسبة تصويت لم تتعدّ 12 في المئة. لولا كلّ هذه التحالفات، وغياب مُرشح قوي لفريق ٨ آذار، وانقسام المعارضة في طرابلس، لربما كانت «البهدلة» الكبرى. لا دليل على عمق أزمة تيار رئيس الحكومة مع جمهوره أوضح من هذه النتيجة. وهي ليست وليدة استحقاق أمس، بل استمرار لمُسلسل التضعضع الشعبي الذي بدأ منذ ما قبل الانتخابات النيابية في أيار الماضي، من دون أن يُظهر «المستقبل» أي نيّة لتصحيح المسار. مشكلة التيار الأزرق، بحسب أحد الوزراء السابقين، أنّه يملك رأياً عاماً «من دون كوادر وعصب وقضية».
ليس الرقم النهائي الذي سيُسجّل لجمالي مُهماً. فالأساس هو نسبة الاقتراع المتدنية جداً، ومقاطعة أكثر من 80 في المئة من الناخبين الطرابلسيين للانتخابات رغم التحالف السياسي العريض وحالة الاستنفار التي أعلنها آل الحريري. يحاول السياسيون الذين تحالفوا مع «المستقبل» تبرير الإقبال الضعيف بعدد من الأسباب، بدءاً من الزعم بأنّ نسبة الاقتراع في الفرعية لا تكون إجمالاً مرتفعة، فضلاً عن أنّ «أكثرية الطرابلسيين اعتبرت النتيجة محسومة في غياب أي منافس جدّي»، ناهيك عن أن المُرشحة «ليست حصاناً من السهل تسويقه، مع غياب الخطاب السياسي وعدم وجود قضية لدى المستقبل»، فضلاً عن أنّ «الماكينات الحزبية لم تعمل كما يجب».
كل هذه الأسباب لا تبدو مقنعة. ليس طبيعياً أن تتدنّى نسبة الاقتراع في «الفرعية» إلى هذا المستوى، بعد أن يكون الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري قد أمضى شهراً في طرابلس يستنفر القواعد ويشدّ عصبها بتجييش طائفي مقيت، وبعد زيارات السنيورة وبهية الحريري وسعد الحريري إلى المدينة. وفي ما يتعلق بفرعية الانتخابات، يُمكن «المستقبل» وحلفاءه العودة إلى انتخابات المنية الفرعية عام 2010، عندما بلغت نسبة الاقتراع نحو 34 في المئة. اما لماذا لم تعمل الماكينات كما يجب، فلأنه «لم يكن هناك مال انتخابي»! في الفيحاء، تعتبر القوى السياسية نفسها «مُقصرة» فقط، إن لم ترش الناخبين. علماً أن أخباراً سرت عن «إجبار المستقبل متمولين فيه على دفع مبالغ من المال لصرفها يوم الانتخاب».
داخل محله لبيع الفول والحمص في الدباغة، يجلس محمود وحده. «بطرابلس، بدّن يانا نضل فقرا لنركض وراهن كرمال الـ100 دولار. ما في شغل يا بنتي. فاتت زوجتي مرتين عا المستشفى ودفعت كلّ مرة 800 ألف ليرة فرق». يتراجع الحديث السياسي أمام الوضع الاجتماعي للشعب، «وافترضي إجا حدا جديد، ليش بيخللوه يشتغل؟ النواب هني ذاتن». الكلام نفسه يتكرر على كل لسان. تُرجم ذلك طيلة يوم أمس، في الحركة «العادية» داخل شوارع طرابلس والميناء. قرب ساحة النور، كان شاب يتحدّث على الهاتف: «في شي هون متل كأنو انتخابات. ما بعرف». وهذا صحيح، إذ كان بعض مراكز الاقتراع خالياً إلا من عناصر الجيش، وبعضها الآخر انتشر أمامه مندوبون لم يقوموا بجهد لاستقطاب الناخبين. وكان عدد هؤلاء داخل بعض الأقلام يقتصر على مندوب واحد لـ«المستقبل»، مع غياب كلّي لمندوبي المرشحين الستة: مصباح الأحدب، يحيى مولود، عمر السيد، طلال كبارة، نزار زكا، حامد عمشه. الأخير، بحسب ما قيل في طرابلس، «رشحه المستقبل ليستفيد من المندوبين الذين يحقّ لكل مرشح الاستعانة بهم». فيما تأخر حصول مولود على موافقات المندوبين حتى التاسعة من صباح أمس، وربما هذا ما يُفسّر غياب مندوبيه من الأحياء الطرابلسية. علماً أنه تعرّض ليلة السبت لـ«ترهيب» عندما داهم عناصر أحد الأجهزة الأمنية مركزه في الميناء وحقّق مع عدد من الشبان.
في طرابلس، «العالم ملّت من الوعود. ما رح ينتخبو»، يقول سائق الدراجة النارية. لماذا لا تقترعون للخيار الآخر؟ «في كتير عم بقولو رح ينتخبو لعمر (السيد)». اسم السيد تردّد كثيراً في الشارع، «فهو مثلنا ابن الأرض، وأمضى سنواته ووالدته في خدمة الناس». الحجة ام عمر، لم تهدأ أمس، غير آبهة بالنجاح بقدر رهانها على رقم يُتيح البناء للمرحلة المقبلة. أما السيد، فجلس داخل مكتبه، محاطاً بعدد من الشباب، متفائلاً بأنّ «النتيجة ستُفاجئ الجميع». ظلّ يُراهن على تكرار سيناريو البلدية ٢٠١٦، «لكن المشكلة، أنّه حالياً لا يوجد رمز ليقود الناس المعترضة على الطبقة الحاكمة»، يقول أحد الوزراء السابقين.
«العالم قرفانة وفي نقمة». يصدر هذا الكلام عن واحد من مندوبي تيار المستقبل. كان يقف أمام قلم الاقتراع في منطقة الجميزات، حين مرّت شقيقة الموقوف في إيران نزار زكا. ما رأيك بترشيحه؟ «وشو الغلط انو يترشح كتير ناس؟ خليهم ياخدو الاصوات من درب هالسياسيين الزعران»، يقول المندوب متناسياً أنّه يُروج لرمز السلطة التنفيذية في الدولة. يُبرّر الأمر، «بأنّ الطرابلسيين سيقترعون للحريري لأنّه ربحان معهم أو بدونهم. فهم ليسوا راغبين في المخاطرة بخسارة شبكة الأمان التي تؤمنها لهم السلطة، من أجل خيار آخر غير مضمون».
لم يكن هذا رأي مولود بعد انتهاء اليوم الانتخابي، وبدء فرز الصناديق. بالنسبة إليه، «المعارضة انتصرت في طرابلس، والطرابلسيون قالوا ألف لا للسلطة السياسية الممثلة بالزعامات».
التصويت العلوي: لا قرار
جبل محسن كان، أمس، «قِبلة» القوى السياسية. بقيت الماكينات الانتخابية تنتظر القرار الذي ستتخذه أكثرية أهل الجبل، وإن كان من «كلمة سرّ» سيُرسلها رفعت عيد لتحشيد الناخبين. اعتُبر أنّ «التصويت العلوي»، إن حصل، سيصب لمصلحة يحيى مولود، ويُرجح كفته على ديما جمالي. لم يصل القرار، ولم تزد نسبة الاقتراع في «البعل» عن واحد في المئة بعد تصريح لأشرف ريفي عن الناخبين الذي يتوجهون إلى الاقتراع «بالصفيرة». فُهم من حديثه أنّه يقصد جبل محسن (أوضح بعدها أنّه قصد جمهور 8 آذار)، فاقترع قسمٌ من أبنائه لمولود «نكاية» بريفي.