كتب نبيل هيثم في صحيفة “الجمهورية”:
«حال المواطن اللبناني، كحال ذلك المريض المنحوس، الذي تقول الاسطورة انه كان يعيش في دولة قديمة اسمها «غبائستان»، وكان يعاني وجعاً رهيباً في رأسه، أعجز كل أطباء ذلك العصر عن إيجاد علاج له، فقُطع الامل في شفائه. وصار الوجع يشتد اكثر فأكثر، حتى لمعت في رأس أحد «أذكياء» تلك الدولة، فكرة بأن أمر بإحضار المريض وتوثيقه، واستلّ عصا غليظة، وبكل ما أوتي من قوة وعزم، إنهال عليه ضرباً على سائر أنحاء جسمه حتى انهار تعباً. واما المريض فنسي وجع رأسه، وذهب في رحلة وجع لا يُطاق من ظهره الى بطنه وكل أطرافه ومفاصله. هنا نجحت الفكرة ونال صاحبها التهاني والثناء، وأُسقط عليه لقب «طبيب ذلك العصر».
هذه الطرفة، يرويها أحد ظرفاء السياسة في لبنان، بوصفها تلخّص الوضع الحالي في لبنان، وما تنوي الحكومة اتخاذه من تدابير وإجراءات تقشّفية لتخفيض عجز الخرينة.
لا أحد في لبنان يختلف مع الحكومة في توجّهها نحو هذا التخفيض، وإحداث وفرٍ للخزينة، يحدّ من المسار الإنحداري الذي يسلكه الوضع الاقتصادي، وبالتالي يبعث بعض الطمأنينة لدى اللبنانيين، الذين يعيشون قلقاً مفزعاً على غدهم ومستقبلهم، مع تزايد الحديث على لسان اكثر من مسؤول، بأنّ لبنان، إن استمر في هذا الإنحدار، فمصيره «اليوننة» لا محالة.
الّا انّ الاختلاف معها كبير من قِبل الشريحة الكبيرة من اللبنانيين، فمرض البلد، لا يحتاج الى صور أشعة وتحاليل مخبرية لتشخيصه، خصوصاً انّه واضح وضوح الشمس، ويكمن في دولة مبتلية بسياسة مالية واقتصادية أوصلت البلد الى ما هو عليه من انحدار، وأنزلت القيمة الشرائية للعملة اللبنانية الى أسفل الدرك وحوّل رواتب الموظفين، كل الموظفين، الى مجرّد ارقام تذوب كالملح خلال الاسبوع الاول من الشهر. ومبتلية ايضاً بفساد، ولصوصية، وارتكابات وفوضى، يُجمع كلّ اللبنانيين على أنّها معشّشة في إداراتها ومؤسّساتها ووزاراتها وكلّ مفاصلها، وتغطيها محميات سياسية. ناهيك عن النزف الرهيب في الخزينة جرّاء الهدر المالي والإنفاق العشوائي المتفلت من أية رقابة وحساب.
هذه الصورة السوداء، تؤشر الى أنّ العلاج – إن كان التوجّه اليه جدياً – يبدأ من هنا. فهذا الباب يؤمّن الوفر المطلوب، لا بل يفيض، وليس بالذهاب الى أقصر الطرق واستسهال مدّ اليد الى جيوب الموظّفين، ووضع رواتبهم على مشرحة التخفيض. وهذا الامر يبدو شديد الصعوبة. ولم يكن خافياً على القوى السياسية، التي فشلت في تأمين التغطية السياسية لهذا الإجراء الذي يندرج في سياق «الإجراءات الموجعة وغير الشعبية» التي تحضّر لها الحكومة.
بصرف النظر عن التداعيات، فلا شك انّ التخفيض اياً كانت نسبته، امر جيّد للخزينة، ولكن ثمة اسئلة كثيرة تعترض طريقه:
– لنفرض انّ الموظف سلّم بالامر الواقع وقَبِل بتخفيض راتبه، او مستحقاته او مخصّصاته، فما هو المقابل الذي سيعطى للموظف كتعويض عن التخفيض؟
– هل ستُخفّض أقساط المدارس والجامعات؟
– هل ستُخفّض أسعار السلع والمواد الاستهلاكية الضرورية؟
– هل ستُخفّض الايجارات؟
– هل ستُخفّض كلفة الطبابة والدواء والاستشفاء؟
– هل ستُخفّض فوائد المصارف على القروض، وكيف ستُسدّد هذه القروض؟ (الشريحة الكبرى من الموظفين واقعة تحت ضغط الديون للمصارف).
– هل ستُخفّض فاتورة الهاتف والكهرباء والبنزين وسائر المحروقات؟
– هل ستوقف السمسرات والصفقات، وتمنع التهريب المتفلت، لا بل المحمي، الذي يحرم الخزينة مئات ملايين الدولارات؟
– هل ستضبط الإدارة وتقتلع الفساد والمفسدين، وتمنع الرشاوى العلنية، وتمنع الصرف السخي على جيش المستشارين؟
– هل ستضبط المصاريف السرّية، التي تُصرف بلا رقيب او حسيب؟
– هل سيتم البحث جدياً عن المليارات الضائعة وتحديد وجهة صرفها، او مكان وجودها ان بقي منها شيء؟
– هل سيتم وقف التضخّم في القطاع العام، او بالاحرى، هل تملك الحكومة قدرة تخفيض هذا القطاع؟
وحبل الاسئلة طويل جداً، وبعضها يؤشر الى المعبر الإلزامي نحو الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ الخزينة ومنع البلد من الانهيار، خصوصاً تلك الاصلاحات المطلوبة من «سيدر». وثمة رسالة جديدة وصلت الى لبنان قبل ايام قليلة، مفادها ان ليس هناك احد في الخارج، لا الفرنسيون ولا أي طرف اوروبي او غربي آخر على استعداد لان يمد يد المساعدة للبنان، إن لم تكن هناك اصلاحات وموازنة مخفّضة.
الشرط الأول للتخفيض هو ان تُقنع به الناس اولاً، وتقدّم تعويضاً لهم يجعلهم يثقون بصوابية هذا الإجراء.
عندما يُسأل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون حول هذا الموضوع، يأتي الجواب انّ الامور ينبغي ان تذهب في الاتجاه الصحيح. امّا رئيس الحكومة سعد الحريري فـ»سيدر» من ورائه، والإصلاحات والقرارات الموجعة من امامه، وحتى الآن لم يصل الى مبتغاه. واما رئيس المجلس النيابي نبيه بري، فالأولوية بالنسبة اليه هو بقاء البلد على قيد الحياة. لكن بشكل مدروس ومعمّق، وليس كيفما كان، بحيث نكون في أزمة فنصبح في أزمة اكبر، ربما تكون آثارها وتداعياتها اكثر حدّة وعنفاً وسلبية من الأزمة الأم.
رئيس المجلس، مع كل الإجراءات التي تمكّن من احتواء الازمة وتخفيض العجز، انما الاساس، كما يقول، يبقى الّا تطال هذه الاجراءات الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة، «هذا الديدبان تبعي».
ويضيف: «المطلوب سلّة كاملة متكاملة لا تضع خيمة على رأس احد ولا يكون فيها صيف وشتاء تحت سقف واحد، وبالتالي ان كان هناك تضحية، فلتكن هذه التضحية من الجميع. وفي هذا الموضوع لديّ مسلّمات، اولاً ان يكون هناك قبل كل شيء التزام بالقانون، وتطبيق كل القوانين من دون استثناء وعدم تعطيلها. ثانياً، لا بدّ من شمول التخفيضات اصحاب الرواتب الخيالية. ثالثاً، منع ان يقبض احد راتبين او ثلاثة رواتب من الدولة في آن واحد. رابعاً، تخفيف الإنفاق على السفرات وما شابه، وان يسري ذلك على الجميع. خامساً، وقف التقاعد المبكر في بعض القطاعات. سادساً، وقف التوظيف نهائياً، فهناك تخمة في الموظفين الذين يمكن الاستفادة منهم وتوزيعهم على الادارات والوزارات التي تحتاج اليهم. سابعاً، وقف بدعة وجود الموازنات الملحقة. فما معنى وجودها طالما هناك موازنة عامة؟».