كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
أظهر تسليم موسكو رفات الجندي الإسرائيلي الذي قتل في لبنان عام 1982 ومن ثم رفات إيلي كوهين، انّ موسكو تتقصّد إحراج النظام السوري بإظهاره إمّا متعاوناً مع إسرائيل وإمّا خاضعاً لسياستها، فماذا يحصل بين موسكو وبشار الأسد؟
لم تشأ موسكو ترك رواية تسليم رفات زاخاري باوميل مبهمة، بل تقصّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً ان يعلن انّ «أفراد الجيش الروسي هم من
وجدوا رفات الجندي الإسرائيلي في سوريا بالتنسيق مع السوريين، وانّ رفاته ستنقل إلى إسرائيل برفقة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو».
كان في استطاعة موسكو ان تتجاهل هذا الموضوع كلياً وأن لا تعلِّق عليه، وبالتالي بين تأكيد تل أبيب وعدم تعليق النظام السوري تكون إسرائيل استعادت رفات أحد جنودها، ويكون النظام السوري تجنّب الإحراج، ولكنّ بوتين أصرّ شخصياً على تأكيد النبأ والذي وضِع في إطار الهدية لنتنياهو عشيّة الانتخابات الإسرائيلية.
ولكن إذا كان تسليم رفات الجندي هدية انتخابية، فماذا عن تسليم كوهين الذي أعلن عنه بعد الانتخابات الإسرائيلية؟ حيث كشفت صحيفة «جيروزاليم بوست» انّ «الوفد الروسي الذي زار سوريا أخيراً، غادر وهو يحمل تابوتاً يضم رفات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين الذي أُعدِم في دمشق عام ١٩٦٥»، ولم تنفِ موسكو ولا تل أبيب ولا النظام السوري هذا الخبر.
وإذا كان تسليم رفات الجندي الإسرائيلي وحتى من دون صفقة تبادل، ممكن حصوله بحدود معينة على رغم كونه مستغرباً جداً وغير مسبوق، إلّا انّ تسليم رفات كوهين الذي كان رفض النظام السوري على مرّ العقود اي تفاوض حول هذا الأمر، يدلّ في وضوح الى انّ النظام السوري فاقد القرار السياسي لأنه لو عادت إليه لما كان بالتأكيد سَلّم رفات باوميل ولا رفات كوهين، ما يؤشر ويدلّ الى انه في موقع المغلوب على أمره.
ولكن المسألة تبدو أبعد من إعطاء انطباع انّ القرار السوري في يد موسكو، بل توحي وكأنّ هناك إرادة لإحراج النظام السوري وتلقينه درساً، ولكن ما السبب وراء ذلك في حال صحّ وجود رغبة انتقامية منه؟
تقول مصادر ديبلوماسية عربية انّ النظام السوري انقلب على مبادرة كانت تعمل عليها موسكو مع واشنطن والرياض وقوامها إخراج إيران ونفوذها من سوريا مقابل ان تكون دمشق تحت النفوذ الروسي ويصار الى تحييدها عن نزاع المحاور الإقليمية، اذ ليس مطلوباً منها ان تنتقل من الحضن الإيراني الى الحضن السعودي دفعة واحدة، إنما يكفي إخراجها من المحور الإيراني وإقفال سوريا ممراً إلى «حزب الله» والمنظمات الفلسطينية. وبالتالي، أن يتبنّى نظامها موقفاً مشابهاً لرئيس الحكومة العراقي عادل عبد المهدي في انّ مصلحة العراق أولاً وتأتي قبل اي مصلحة أخرى أكانت أميركية أم إيرانية أم سعودية.
وتقول المصادر انّ النظام السوري أعطى انطباعاً أنه يلتزم مضمون المبادرة التي يستعيد عبرها مشروعيته العربية والدولية للمرحلة الانتقالية، وهذا ما يفسِّر افتتاح السفارة الإماراتية واستعداد دول عدة ومن ضمنها السعودية لإعادة فتح سفارتها والكلام عن إعادة الإعمار والحلّ السياسي في سوريا، فكل هذه الخطوات وغيرها أتت في سياق التسوية التي كانت روسيا تعمل عليها.
ولكن وقع المفاجأة بالنسبة إلى موسكو، ودائماً وفق المصادر نفسها، انّ الأسد وبدلاً من ان ينفِّذ الشق المطلوب منه تزامناً مع التزام الأطراف الأخرى تنفيذ الشق المطلوب منها، توجّه الى إيران في نهاية شباط الماضي للاجتماع بالمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية السيد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني في زيارة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الحرب السورية، وفي رسالة شديدة الوضوح الى موسكو مفادها انه لن يتخلى عن حلفه مع إيران.
والمحاولة الروسية لا تخرج عن سياق محاولات عربية عدة لفك ارتباط النظام السوري بالنظام الإيراني وكلها باءت بالفشل، إلّا انّ الاعتقاد الروسي كان انّ غياب الخيارات امام الاسد سيدفعه الى السير في المبادرة الروسية، خصوصاً انّ النظام السوري يستطيع ان يبرر تموضعه تحت المظلة الروسية أكثر من تموضعه تحت المظلة العربية، ولكن هذا الاعتقاد لم يكن في مكانه لسبب من سببين او الاثنين معاً:
ـ السبب الأول، كون التحالف الذي يربط النظامين السوري والإيراني هو من طبيعة عضوية ودينية وعقائدية، والنظام السوري كان الوحيد عربياً الذي تحالف مع الثورة الإسلامية منذ قيامها، الا انّ الاسد الأب أجاد دَوزنة العلاقة مع طهران ومع العواصم العربية خلافاً لنجله الذي قطع الجسور مع الجميع.
ـ السبب الثاني، لأنّ الأسد يثق بأنّ طهران لن تتخلى عنه تحت أي ظرف دولي او إقليمي، وبالتالي يخشى في حال خسارته الورقة الإيرانية ان يفقد أبرز عناصر قوته، وأن ترد طهران بإسقاطه أو تتخلى عنه موسكو لاحقاً لاعتباراتها المصلحية الدولية.
ولكنّ الرد الروسي على إسقاط الأسد للمبادرة الروسية لم يتأخر بدءاً من السماح لتل أبيب بإعادة استخدام المجال الجوي السوري لاستهداف المواقع الإيرانية ومواقع «حزب الله»، وصولاً إلى رفات الجندي الإسرائيلي ورفات كوهين في رسالة إلى عمق العلاقة مع تل أبيب، وما بينهما تأجيل الحلّ السوري الى ما بعد الحرب او التسوية الأميركية – الإيرانية، وفي أي تسوية سيكون رأس النظام على طاولة المفاوضات كون موسكو غير مضطرة الدفاع عن نظام بَدّى طهران عليها وأظهرها في موقع غير القادر على إدارة الحل السوري.
فروسيا «تنتقم» من الأسد على طريقتها وفي حدود قدرتها على التأثير بعدما تبيّن معها استحالة جَرّه الى تسوية بمعزل عن طهران، وليس تفصيلاً ان تصبح تل أبيب اللاعب الأقوى في سوريا بدلاً من إيران التي تتعرّض لحصار روسي في سوريا، وأميركي في العراق الذي يشهد تحولات مهمة لكي لا نقول انقلابية على النفوذ الإيراني داخل بغداد، ما يعني إسقاط او تعطيل أوراق النفوذ الإيرانية الواحدة تلو الأخرى من اليمن الى العراق وسوريا ولبنان قبل حتى الجلوس على طاولة المفاوضات.
فما يحصل في المنطقة يندرج في سياق التحولات الكبرى، وقد جاء تصريح مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنير من انّ خطة السلام المعروفة بـ«صفقة القرن» ستعلن بعد تأليف الحكومة في إسرائيل وبعد شهر رمضان، ليؤكد انّ «صفقة القرن» ليست شبحاً ولا وهماً، إنما خطة متكاملة تعمل واشنطن على تحقيقها، وذلك بمعزل عن انّ مقدماتها غير مطمئنة على الإطلاق، من تسييد إسرائيل على الجولان، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولكن هذا يؤكد المؤكد وهو انّ المنطقة مقبلة على مرحلة ساخنة جداً.