ارتسمتْ في بيروت أمس مَلامحُ سكْبِ مياه باردة على مناخاتِ التوتر، سياسياً وفي الشارع، التي واكبتْ انطلاق مناقشات مشروع موازنة 2019 على طاولة مجلس الوزراء، وسط انطباعٍ بأن غالبية القوى المُشارِكة في الحكومة عادت الى «الانتظام» تحت سقف أولوية إخماد «كرة النار» التي يشكّلها العجز المتمادي في المالية العامة والتي باتت تُنْذِر بأخطار كبيرة على الواقع اللبناني المشدود أساساً إلى «الجبهات المشتعلة» في المنطقة والتي يُخشى أن يجد نفسه على خطّها إما بقرارٍ كبير وإما خطأ كبير.
وفيما كان المَشهد الداخلي في حال ترقُّب لكلمة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي تحدّث عصراً وتناول عناوين داخلية وإقليمية في لحظة بدء سريان قرار واشنطن بوقف الإعفاءات التي كانت منحتْها لثماني دول لشراء النفط الإيراني، بدت الأجواء التي تحوط مسار إقرار الموازنة وكأنها في مرحلة «ما بعد العاصفة» التي هبّت على «جبهتيْن»:
الأولى عبّر عنها اندلاعُ (المعارك الجانبية) بين مكوّنات في الحكومة (فريق رئيس الجمهورية ميشال عون وفريق رئيس البرلمان نبيه بري) على خلفية خيارات وعناوين تتّصل بإجراءاتٍ تقشفيةٍ أحْدَثتْ إثارةُ بعضها في الإعلام (غباراً) عَكَس دخول مجمل ملف الموازنة في لعبة مزايداتٍ سياسية – شعبية راوحت القراءات لخفاياها بين حدّيْن: إما أنها في إطار (حجْز إنجازاتٍ) تتصل بالتراجع عن بعض الإجراءات المؤلمة وإما أنها في سياق تقاذف مسؤولية مبكّر عن الفشل في إقرار موازنةٍ إصلاحية يعاينها المجتمع الدولي عن كثب ليُفْرِج على أساسها عن الأموال المخصّصة للبنان في مؤتمر«سيدر» (نحو 11 مليار دولار).
والثانية تحركات احتجاجية في الشارع ضدّ أي خيارات تمس رواتب العاملين في القطاع العام او المتقاعدين (عسكريين ومدنيين) وتقديماتٍ أساسية، وهي التحركات التي استفادت من تسريباتٍ حول إجراءاتٍ، كان بعضها من ضمن سلّة أفكار نوقشت قبل بدء بحث مشروع الموازنة على طاولة الحكومة ثم جرى غضّ النظر عنها (مثل تجميد نسبة 15 بالمئة من رواتب كل العاملين في القطاع العام ثم قصْر الفكرة على الرواتب العالية).
وقد حرّك هذا المناخ العسكريين المتقاعدين الذين نزلوا مجدداً الى الشارع الثلاثاء في رسالة تحذيرية لم يُفهم عنوانها باعتبار أن وزير المال أكد أن لا مساس برواتبهم، قبل أن يُعلَن الإضراب العام بدءاً من الأربعاء في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة احتجاجاً على أي اقتطاعات من المعاشات أو ضرائب جديدة، وهو الإضراب الذي استمرّ أمس.
وفيما كانت قوى سياسية تتقدّمها «القوات اللبنانية» تطلق معركةَ سحْب الأبعاد الشعبوية عن المناقشات حول الموازنة لمصلحة مقاربة هذا الملف الحساس بواقعيةٍ وبمعزل عن تحميل المسؤوليات عما آلتْ إليه الأوضاع وعلى قاعدة «أن الأهم اليوم إطفاء النار التي من الممكن أن تحرق المنزل بأكمله»، كما توجّه رئيس «القوات» سمير جعجع الى «كل من يقومون بالتحركات في الشارع»، سُجلت أمس، إشارتان «تبريديتان».
فعلى مستوى الحكومة التي عقدت جلسةً ثالثةً لمناقشة الموازنة برئاسة رئيسها سعد الحريري، بدا واضحاً التزام أطرافها بالتوافق الذي حصل في جلسة الأربعاء على عدم التسريب أو الدخول في مناقشاتٍ عبر الإعلام، وذلك في أعقاب الجو المتوتر الذي ساد تلك الجلسة على خلفية تحويل الموازنة مادة لمنازلات عبر المنابر، وسط تقارير أشارت الى أن وزير المال علي حسن خليل هدّد بترْك الجلسة قبل أن يتدخّل الحريري ويعمد وزير الخارجية جبران باسيل الى التأكيد لخليل تأييده في كل الإجراءات التي يقترحها وحتى في خياراتٍ أبعد منها.