كتبت رلى موفق في صحيفة “اللواء”:
ردَّ الزعيم الدرزي وليد جنبلاط على قرار تطويقه من قبل «حزب الله» وحلفائه في المكان الأكثر حساسية لـ«الحزب»، والمتمثل بمشروعية سلاحه. أكثر ما يستثير «حزب الله» هو إثارة الإشكاليات حول «شرعية السلاح المقاوم» والمرتبط، وفق القانون الدولي، بوجود أراضٍ محتلة. فمنذ الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 الذي لم يشمل مزارع شبعا المحتلة كونها لا تخضع للقرار الدولي رقم 425 المتعلق بجنوب لبنان، ولا تقع ضمن نطاق عمليات «اليونيفل»، بل هي تابعة للقرار الدولي رقم 242 المتعلق بجنوب سوريا، حيث منطقة عمليات قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك «الأندوف»، أضحت هوية المزارع محور خلاف بين القوى السياسية اللبنانية، إذ أن الأمم المتحدة تعتبرها سورية لا لبنانية، وتعتبر أن ثمة تحريفاً حصل في الخرائط كذريعة لإبقاء «حزب الله» على منظومته المسلحة.
إثارة جنبلاط لإشكالية لبنانية مزارع شبعا، من حيث سيادتها، بعدما تمّ وضعها جانباً نتيجة التوافق في «مؤتمر الحوار» عام 2006 على لبنانيتها، والحاجة إلى تثبيتها وتحديدها وفق الإجراءات والأصول المعتمدة والمقبولة لدى الأمم المتحدة، يتم اعتبارها – وفق مراقبين – رسالة سياسية بامتياز رداً على قرار «الحزب» قطع العلاقات مع المختارة.
ذريعة قطع العلاقات هي إلغاء وزير الصناعة وائل أبو فاعور لترخيص معمل «إسمنت الأرز» لآل فتوش في عين داره، حيث كان وزير «الحزب» حسين الحاج حسن قد رخّصه. لكن معنيين على الضفة الجنبلاطية يرون أنه مهما كان إحراج «حزب الله» في هذه القضية، فليس من المُقنع أن يذهب إلى قرار كبير بحجم قطع العلاقات مع المختارة، ولا سيما في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به «الحزب» بضغوط جمّة إقليمياً ودولياً، ويحتاج فيه إلى تبريد الجبهات الداخلية، إذا لم يكن اعتماد سياسة «صفر مشاكل».
من الواضح أن العلاقة بين جنبلاط و«حزب الله» هي علاقة الحدّ الأدنى أو علاقة الضرورة، يعتريها الفتور ويشوبها تباين عميق في الرؤى الاستراتيجية والسياسية، كان الجانبان يعملان على مقاربتها بحذر إلى أن بدأ كل منهما ينظر بريبة إلى خطوات الآخر. جنبلاط مُدرك بأن هناك عملاً حثيثاً من النظام السوري لتطويقه، وثمة قناعة بأن طريق النظام السوري في لبنان تمر بـ «حارة حريك»، بعدما خرج من لبنان وبعد انخراط إيران وأذرعها العسكرية في الحرب السورية إلى جانبه، تضاف إلى الاستهداف الذي طاله من قانون الانتخاب، ومن التسوية الرئاسية عموماً، التي ينفذ منها تيار رئيس الجمهورية في تحالفاته إلى اختراق الجبل.
ففي المحصلة، ثمة قوى عدة تتلاقى، بدفع من إمساك «حزب الله» بمفاصل المعادلة السياسية، على إضعاف دور جنبلاط السياسي وموقعه في التركيبة السياسية للبلاد. هذه القوى ما كانت لتتجرّأ على الذهاب بعيداً إلى حد إحداث إرباكات واستفزازات على الأرض لو لم تكن تحظى بـ «غطاء ما» لذلك، وما مساعي خلق تكتلات مناهضة لجنبلاط وبيئته الحاضنة إلا فصول من خطة استهدافه.
وقد شهدت العلاقة بين المختارة و«حارة حريك»، قبل أشهر، مستوى عالياً من التأزم، يوم هاجم أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله جنبلاط بالمباشر، رداً على كلام للأخير تناول فيه طهران، غير أن هذا التأزّم لم يصل إلى حدود القطيعة السياسية، وجرى إعادة ضبط العلاقة.
يقول لصيقون بـ «حزب الله» أن الحزب يرصد على الدوام مواقف جنبلاط ، ويرتاب حين يضمّنها إشارات سياسية يفهم «الحزب» مغزاها، وأنه في مسألة رخصة «اسمنت الأرز»، لم يتوقع أن يذهب أبو فاعور إلى إلغائها، لا سيما بعدما زاره وفد من «الحزب» طالباً الإبقاء على الترخيص. رواية التقدمي تشير إلى أن وزير الصناعة بقي حتى اليوم الأخير في انتظار جواب «حزب الله» على سؤال عما إذا كانت لديه مصلحة مباشرة ببقاء الرخصة، وعندما جرت محاولة الاتصال بمن راجعوه، غابوا عن السمع.
في الترجمة السياسية للروايتين أن «حزب الله» كان يريد من جنبلاط أن يتماشى مع ما يريده، لكنه لم يفعل، فكان الردّ عليه بالقطيعة، إلا انه لم يتوقع كذلك أن يأتي الرد الجنبلاطي عليه بهذا السقف السياسي العالي في هذا التوقيت الدقيق، على الرغم من أن الرجل سعى، بعد إبلاغه قرار القطيعة، إلى إيصال رسائل بأنه لا يعتبر أن الحوار قد انقطع، في رغبه منه للقول بأنه غير راغب في توتير العلاقة.
يذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أن جنبلاط برسالته أراد أن يقول إنه لن يقف متفرجاً على محاولة إلغاء موقعه ودوره وما تمثله المختارة من ثقل سياسي، وأن لديه خيارات أخرى مفتوحة إذا استمر منحى التطويق بهدف إضعافه. فالرجل لا يجب أن يُنظر إليه على أنه زعيم دروز لبنان فقط، فهو المرجعية السياسية الأبرز للدروز العرب، لا بل إنه معنيّ بحمايتهم في ظل التقلبات السياسية الإقليمية والتحوّلات الكبرى الجارية في المنطقة. قد يكون جنبلاط اختار اللحظة المناسبة إقليمياً لإرسال الرسائل في أكثر من اتجاه، من موقعه القادر على التقاط إشارات المتغيّرات الكبرى، لكنه أكثر الناس تيقناً من أن الفترة الراهنة لا تحتمل «الاندفاعات غير المحسوبة بدقة».
لا شك أن المرحلة المقبلة مفتوحة على كثير من الصعاب، وهذا أمر يدركه كذلك «حزب الله»، الذي يؤكد اللصيقون به أن الاتجاه الحاسم لديه هو عدم «شراء أي مشكلة» مع أي من الأطراف الداخليين. وهو ما يُفسّر مقاربة نصر الله الهادئة الاربعاء لموضوع مزارع شبعا، التي تعمّد فيها عدم التطرّق بالمباشر إلى جنبلاط أو مهاجمته كما فعل قبل أشهر، وذلك بعدما جرى في قيادة «الحزب» البحث مطولاً بالطريقة الأنسب للردّ على «زعيم المختارة».
ستبقى العلاقة بين جنبلاط و«حزب الله» متأرجحة وتسير في طرق متعرّجة، لكن الجهد الذي يجري العمل به من «حليف الطرفين» يتركز على إعادة ضبط مسارها مجدداً. المسلمة التي ينطلق منها رئيس مجلس النواب نبيه بري أن علاقته بـ «البيت الجنبلاطي» هي علاقة صلبة ومتينة، وأنه وإن كان محرجاً بـ «قنبلة» جنبلاط التي رماها في وجه «حزب الله»، فإنه سيتلقى شظاياها بصدره، ويعمل على ترميم الأضرار بين كل من «حليفيه اللدودين» ولو احتاج ذلك إلى وقت قليل أو كثير.