Site icon IMLebanon

مزارع شبعا ورقة في جيب نصرالله لتبرير سلاحه وهيمنته

كتب صلاح تقي الدين في صحيفة “العرب اللندنية”:

مرّت علاقة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط و”حزب الله” خلال السنوات الطويلة الماضية بمحطات تميّزت بالبرود أحياناً والدفء أحياناً وبالفتور أحياناً أخرى لكنها لم تنقطع يوماً، بسبب خصوصية الفريقين داخلياً وبسبب اتفاقهما على “تنظيم الخلاف” بينهما، خصوصاً في موضوع العلاقة مع النظام السوري الذي اندفع “حزب الله” بكل ما أوتي للدفاع عن بقائه في مواجهة شعبه، والمواقف العلنية الدائمة لجنبلاط تأييداً لثورة هذا الشعب المغلوب على أمره.

غير أن تصريحات أخيرة لجنبلاط حول مزارع شبعا المحتلة لم تخرج عن باب المنطق والواقعية السياسية تسببت في ما يبدو أنه تجميد لهذه العلاقة، بانتظار ما ستؤول إليه التطورات الإقليمية والداخلية في الأسابيع والأشهر المقبلة. ولكن ما هي حقيقة تلك المزارع التي تسببت في كل هذا الجدل؟

سفوح جبل الشيخ
مزارع شبعا منطقة تقع في الجنوب الشرقي للبنان على سفح جبل الشيخ وعلى المقلب الغربي لهضبة الجولان، وأثناء الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا عقب الحرب العالمية الأولى، تم رسم الحدود اللبنانية السورية في العام 1921 من قبل فرنسا. غير أن الخط الحدودي رسم بشكل غير دقيق. وبحسب الخارطة الفرنسية الأولى للحدود، تبدو منطقة مزارع شبعا جزءا من لبنان، ولكن حسب خارطة فرنسية أخرى تعود إلى العام 1946 تبدو المنطقة وكأنها جزء من سوريا. وبالفعل كانت هذه المنطقة تخضع للإدارة السورية منذ استقلال سوريا وحتى احتلال هضبة الجولان من قبل إسرائيل في حرب 1967.

أما بعد اجتياح إسرائيل للبنان في العام 1978، واحتلالها منطقة كبيرة من جنوبه في إطار ما سمته الدولة العبرية بـ”عملية الليطاني”، فقد صدر قرار من مجلس الأمن الدولي حمل الرقم 425 نص على خروج إسرائيل من المناطق اللبنانية المحتلة من دون أن يصار إلى الإشارة إلى مزارع شبعا. وعملت الأمم المتحدة بعد انسحاب إسرائيل في العام 2000 على ترسيم الحدود بين لبنان وإٍسرائيل ورسمت ما يعرف باسم “الخط الأزرق” والذي أبقى معظم منطقة مزارع شبعا، إلى جنوبه. ورغم مطالبة لبنان بممارسة السيادة على عموم هذه المنطقة، لم تفرض الأمم المتحدة على إسرائيل حتى الآن الانسحاب منه لاعتباره جزءا من سوريا الخاضع لسيطرة إسرائيلية بعد حرب 1967 وبحسب اتفاقية “فك الاشتباك” بين سوريا وإسرائيل الموقعة في العام 1973.

لكن المطامع الإسرائيلية في لبنان تجدّدت في يوليو من العام 2006 حيث شنت ما عرف باسم “حرب الـ33 يوما” انتهت بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 الذي نص على وقف جميع الأعمال القتالية بين “حزب الله” وإسرائيل، والذي طلب من الفريقين احترام الخط الأزرق الذي تم ترسيمه في مايو من العام 2000.

المسألة تكمن في تحديد هوية الدولة التي يجب أن تمارس سيادتها على مزارع شبعا، وهذا ما حاول لبنان أن يقوم به بالوسائل الدبلوماسية والقانونية لإثبات ملكيته لهذه المنطقة التي تبلغ مساحتها حوالي 25 كيلومترا مربعة، وتقع على منحدرات وتلال وبعض السهول والهضبات، وتتدرج من علو 1500 متر عن سطح البحر وعلو 1200 كمزرعة برختا وصولا إلى مزرعة المعز التي تنخفض لتوازي مستوى سطح البحر، وتسيطر إسرائيل حاليا على 12 مزرعة مهجورة تقع بين جبل السماق وجبل الروس من الشمال ووادي العسل من الجنوب.

سيادة ضائعة
الحكومة السورية ومنذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد وصولا إلى أيام نجله بشار، لم تلبّ الطلبات اللبنانية المتعلقة بمزارع شبعا، ما جعل الأمم المتحدة تقف حائرة بين إدراجها ضمن القرار 425 أو إبقائها ضمن القرار 242
طالب لبنان سوريا مرارا بأن تزوّده بالوثائق التي تثبت حقه في ممارسة سيادته على المزارع، غير أن الحكومة السورية منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد وصولا إلى أيام نجله بشار، لم تلبّ الطلبات اللبنانية، ما جعل الأمم المتحدة تقف حائرة بين إدراج المزارع ضمن القرار 425 وإعادة ترسيم الخط الأزرق، أو إبقاء المزارع ضمن القرار 242 وبالتالي بقاء الاحتلال الإسرائيلي جاثما على أراض سورية مصيرها خاضع لحل مستقبلي للنزاع الإسرائيلي السوري.

وجاء في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بشأن الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني، صدر في 22 مايو 2000  ما نصه “في 15 مايو 2000، تلقت الأمم المتحدة خارطة مؤرخة في العام 1966، من حكومة لبنان تعكس موقف الحكومة بأن هذه المزارع كانت واقعة داخل لبنان. غير أن في حوزة الأمم المتحدة 10 خرائط أخرى أصدرتها، بعد عام 1996 مؤسسات حكومية لبنانية، منها وزارة الدفاع والجيش، وجميعها تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية. وقد قامت الأمم المتحدة أيضا بدراسة ست خرائط أصدرتها حكومة الجمهورية العربية السورية، منها ثلاث خرائط تعود إلى عام 1966، تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية”.

وحين انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان، بررت عدم انسحابها من المزارع بأنها سورية، فتحفظ لبنان على هذه النقطة وقدّم 50 وثيقة تثبت لبنانيتها.أما أصل الغموض بشأن المزارع فهو سابق للاحتلال الإسرائيلي. ففي الإحصاء السكاني الذي نشرته سوريا في 1960 ترد قائمة تضم 12 مزرعة منها مع عدد سكانها كأنها بلدات سورية. ويجزم أستاذ التاريخ والمؤلف الأكاديمي عصام خليفة أن “لبنانية المزارع محسومة. فهي منذ المرحلة العثمانية، جزء من شبعا ووحدتها العقارية. صكوك الدولة العثمانية تؤكد انتساب المزارع لقضاء حاصبيا. وفي العام 1920 ذكر قرار الجنرال غورو أن حدود لبنان هي حدود قضاءي حاصبيا ومرجعيون”، ويضيف خليفة “أعيدت عملية ترسيم الحدود الرسمية عام 1946. وتم تثبيتها بمحاضر، وأرسلت كوثيقة إلى الأمم المتحدة. وعند قيام دولة إسرائيل عام 1948. لم يتم قضم أي من الأراضي اللبنانية كما يبيّن خط بولت نيو كومب الذي رسم في 7-4-1923. ووقعت عليه عصبة الأمم. والوثيقة موجودة في جنيف. وحتى الآن لم تجهد نفسها السلطات اللبنانية لضمها إلى الوثائق التي تثبت لبنانية مزارع شبعا. وبعد تشكيل القيادة العربية المتحدة ومعاهدة الدفاع العربية عام 1950 تمركز الجيش السوري في المزارع وبدأت اعتداءاته على الأراضي هناك بحجة المعاهدة”.

إذن، يبدو أن المطامع في السيادة على مزارع شبعا ليست إسرائيلية وحسب، بل هي سورية أيضا، وليس من المستغرب ألا تبادر الجهات الرسمية السورية إلى تسليم لبنان الوثائق التي تثبت الملكية اللبنانية لهذه الأرض المحتلة.

مظلومية مفيدة لنصرالله

بعد بروز نجم “حزب الله” المسلّح، ونجاحه في توجيه ضربات قاسية للعدو الإسرائيلي أثناء احتلاله للجنوب اللبناني، وبالتالي إجباره على الانسحاب، كان من المنطقي أن يتخلّى الحزب عن سلاحه والانخراط في الحياة السياسية اللبنانية كأي حزب آخر من الأحزاب التي تقاتلت أثناء الحرب الأهلية بين العامين 1975 و1990 ثم سلّمت سلاحها إلى الدولة اللبنانية الشرعية. لكن هذا لم يحدث.

فالمطالبة بتحرير مزارع شبعا على ما يبدو، كانت الذريعة التي احتفظ بها “حزب الله” ومن خلفه داعميه إيران والنظام السوري لتبرير احتفاظ الحزب بسلاحه وممارسة هيمنته على الساحة السياسية اللبنانية.

غير أن الساحة اللبنانية نفسها كانت تخضع لنفوذ نظام الوصاية والاحتلال السوري منذ العام 1990 حتى العام 2005، والذي كان خلال طيلة هذه الفترة يمارس مصالحه ومن ضمنها رعاية “حزب الله” الذي كان يشكّل الاستفزاز الأكبر للعدو الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، في حين أن النظام السوري لم يطلق رصاصة واحدة منذ العام 1973 ضد إسرائيل لتحرير الجولان. كانت مسألة إثبات هوية مزارع شبعا مادة رئيسية على طاولة الحوار اللبناني التي انعقدت بمبادرة من رئيس مجلس النواب نبيه بري وقد خرج المجتمعون حينها باتفاق على أن تبذل الحكومة اللبنانية كل جهودها مع النظام السوري للحصول منه على وثائق الملكية التي تثبت أنها لبنانية، في إقرار شبه ضمني بأن على سوريا أن “تتنازل” عن سيادتها لهذه المنطقة كي يمارس لبنان سيادته عليها، ومن بين الذين شاركوا في صياغة هذا القرار كان “حزب الله” وجنبلاط نفسه.

لكن فاروق الشرع، النائب السابق للرئيس السوري قال في مايو من العام 2000 للأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، إن “سوريا تدعم ادعاء لبنان بأن مزارع شبعا لبنانية”. وفي يناير عام 2006 أكد بشار الأسد أن مزارع شبعا لبنانية، لكنه شدد على أن “ترسيم الحدود يكون بعد انسحاب إسرائيل من هذه المنطقة”.

منذ مايو العام 2008 وبعد ذلك “اليوم المجيد” الذي أطلقه أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله على الغزوة التي نفّذتها عناصره المسلحة “بنجاح” على بيروت و”بفشل” على جزء من منطقة الجبل، اهتزت علاقة الحزب وجنبلاط بشكل كبير، غير أنها لم تنقطع رغم أن الأخير اتخذ موقفا واضحا على النقيض تماما من سياسات الحزب الإقليمية تحديدا وفي بعض الملفات الداخلية.جنبلاط المعروف بأنه يملك وحيدا بين الفرقاء السياسيين على الساحة اللبنانية مساحة تسمح له بالتحرك بحرّية، يملك من الثوابت التي لا تسمح لأحد بأن يشكّك في انتمائه الوطني والعربي، ودفعت الرئيس بري إلى التصريح علنا أن “جنبلاط لا يضيّع البوصلة” في إشارة إلى الانتقادات الكثيرة التي توجه إلى جنبلاط نتيجة مواقفه “المتقلبة” من هذه القضية أو تلك، وتحديدا في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي.

وفي موقف شهير أعلنه من منبر البرلمان في العام 2000، طالب جنبلاط تنفيذ ما نص عليه اتفاق الطائف بانسحاب القوات السورية إلى حدود منطقة ضهر البيدر تمهيداً للانسحاب الكامل من

لبنان، فقامت الدنيا ولم تقعد واتهم بالخيانة على لسان النائب السابق عاصم قانصوه الأمين العام القطري لحزب البعث السوري في لبنان، وتتكرّر هذه الحالة مع كل من يتخذ موقفا لا ينسجم مع سياسة الإذعان لرغبات النظام السوري و”حزب الله”، فإما أنت “معنا” أو أنت “عميل خائن”. وفي مقابلة له من باريس عبر محطة “أم.تي.في” اللبنانية عام 2002 قبل عودته إلى لبنان، أعلن رئيس الجمهورية اللبنانية الحالي العماد عون حرفيا ما يلي عندما قال له المذيع “نحن لا يزال لدينا جزء محتل لذلك لا بد من المقاومة”. فرد عون “أين هو الجزء المحتل؟”. فأجابه المذيع “مزارع شبعا”. فقال عون “كذبة، وأنا مسؤول عما أقول، لا يمكننا تعديل الخارطة على مزاجنا، مزارع شبعا ليست لبنانية، وحتى ولو كانت الأرض لبنانية فهي مضمومة سوريا منذ زمن ولبنان سكت عنها، والحكومة اللبنانية لم تذكر مرة أن لديها أرضا محتلة خاضعة لتنفيذ القرار 242، على العكس قالت أنا لست معنيا بالقرار 242، وليس لدي أرض محتلة، فلا يمكن أن تتراجع وتتبناها بعد تنفيذ القرار 425 وتقول إن لديها أرضا محتلة”. وأضاف “وعلى افتراض أن سوريا تريد إرجاع الأرض لنا فلتتفضل وتعطينا وثيقة وفقا للشرائع الدولية على أن هذه الأرض لبنانية وتحدد على الخارطة رقعة الأرض التي هي لبنانية في مزارع شبعا، وعندها فلتترك لنا المقاومة شرف تحصيلها”.

معنا أو ضدنا
مسألة إثبات هوية مزارع شبعا تعتبر من المواد الرئيسية التي طرحت على طاولة الحوار اللبناني
غير أن مقابلة قناة “روسيا اليوم” الأخيرة مع جنبلاط الأسبوع الماضي، أعادت التركيز على هوية مزارع شبعا مشدّدا على أنها ليست لبنانية “قانونا”. فأكد جنبلاط أن حاكم دمشق بشار الأسد “أكبر كذّاب” لعدم الوفاء بالالتزامات التي سبق أن أعلنها وأعلنها وزير خارجيته وليد المعلم بتقديم وثائق ملكية المزارع إلى لبنان والأمم المتحدة، فقامت “القيامة” وعادت لغة التخوين تبرز من جديد بحق جنبلاط على لسان القوى المؤيدة لسوريا و”حزب الله” دون أن يتخذ الأخير موقفا واضحا سوى عبر “أوساطه” بأن العلاقة مع جنبلاط “تجمّدت”.

هذه القاعدة “العسكرية” التي ينتهجها “حزب الله” شبيهة بما أعلنه يوما الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن “أنت معنا أو ضدنا”، تؤكّد مجدّدا أن السطوة التي يمارسها نتيجة احتفاظه بسلاحه لا يمكن أن تستمر في حال أراد الانتقال إلى العمل السياسي، ويحق لجنبلاط وغيره أن يطلق مواقف توجب الرد عليه بالسياسة وليس بالتخوين أو “هدر الدم” وهل إذا امتلك لبناني شقة في أحد شوارع “طهران” تصبح الأخيرة لبنانية؟