لا يفترض أن يصدر عن «الأخبار» أي تصريح أو تلميح بأنها «تحت سقف القانون» كما توقع البعض بعد سعي جهاز أمني/ استخباري الى مداهمة مكاتبها ومراقبة عملها بحجة البحث عن مسرّب لمحضر اجتماع دبلوماسي نشر في الجريدة.
ربما أمل بعض من حرّك البوليس ضد الصحافة، ومن حرّض المسدس على الكلمة، ومن قدّم العنف على النقاش وأراد كمّ الأفواه انتقال «الأخبار» وأسرة التحرير فيها الى موقع الدفاع من خلال التلطي خلف المواد القانونية التي يفترض أن تكفل التزام الدولة واجب حماية حرية الصحافة وعدم إخضاع الصحافيين للتهديدات البوليسية. فقد جرت عادة كل من يواجه قوى السلطة تكرار مقولة «نحن تحت سقف القانون»، ظناً أن ذلك يمنح بعض الحماية من خلال التأكيد على أن القانون هو الحدّ الذي يجمع بين معايير الأخلاق والإنصاف والعدل. لكننا اليوم نقول صراحة إن ذلك ليس صحيحاً. إن القانون الساري المفعول حالياً في لبنان لا يتناسب تماماً مع التوجهات الحقوقية ومعايير العدالة الواردة في الدستور أصلاً. «الأخبار» ليست ولن تكون تحت سقف القانون، بل هي تحت سقف العدل. المبدأ يسبق القاعدة والقاعدة تسبق النظام: المبدأ هو العدل والقاعدة هي الدستور، أما القانون فهو النظام.
وفي ظل غياب العمل النقابي الضامن للحقوق، وبما أن خطة إصلاح القضاء في لبنان تأجلت وبات العسكر ينتحل صفة التفتيش القضائي (بإشراف قضائي كما قالوا)، وبما أن لكل طائفة أو مذهب أو فريق سياسي قضاة وضباطاً وعسكراً وموظفين، فلا قانون ولا من يحزنون ولا سعي لتطبيق قانون إلا في إطار حلبة البازار السياسي. إن تطبيق القانون في لبنان وفرض أحكامه استنسابي وانتقائي وخاضع لموازين القوة والمال والنفوذ. وهناك العديد من الأدلة على ذلك لجهة عدم التبليغ أو التساهل بسبب تدخل قوى سياسية أو طائفية أو جهات خارجية لدى ضباط أو قضاة أو موظفين.
إن مبدأ حرية الطباعة يرد بوضوح في الدستور اللبناني (المادة 13) ولا يحق لأي من أجهزة الدولة أن تهدد الصحافة من خلال إرسال مسلحين الى مكاتبها لمراقبة حركة الخارجين والداخلين إليها. ولا شرعية لأي قانون يتيح إرهاب الناس ويسعى الى إخضاعهم لسلطة البوليس.
وبما أن المحاضر المسرّبة، موضوع ملاحقة «الأخبار» بوليسياً وقضائياً، كانت الاجتماعات بين مسؤولين أميركيين لا يكفّون عن تحريض فئة من اللبنانيين علناً ضد فئة أخرى مع مسؤولين حكوميين لبنانيين يُظهر أداؤهم أنه لا يمكن الثقة بغالبيتهم، فمن الطبيعي والمتوقع، لا بل من الواجب والضروري أن تسعى «الأخبار» الى معرفة ونشر ما دار في هذه الاجتماعات. وبما أن من العدل أن يأتي الإنسان من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه، فلا شك في أن أي اجتماع بين مسؤول إيراني ودبلوماسي لبناني مقرب من حزب الله يثير نفس الشهية (والحق) لمعرفة ونشر مضمونه لدى إعلاميين يتبعون خطاً سياسياً معادياً لإيران ومحبّذاً للموقف الأميركي/ الإسرائيلي.
المبدأ يسبق القاعدة والقاعدة تسبق النظام: «الأخبار» تحت سقف العدل
العنوان العريض هو التحريض الأميركي/ الإسرائيلي ضد حزب الله ومن يدعم مقاومته، بما في ذلك جريدة «الاخبار». فقبل معالجة «النقّ» بشأن قانون سرية المداولات الدبلوماسية لنتوقف عند أمور أكثر أهمية مثل تطبيق قانون مقاطعة إسرائيل (الصادر في 23 حزيران 1955) مثلاُ.
جاء في نص هذا القانون (الصادر عام 1955 – المادة الأولى) «يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقاً مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو لمصلحتها وذلك متى كان موضوع الاتفاق صفقات تجارية أو عمليات مالية أو أي تعامل آخر أيا كانت طبيعته». ويُعاقب كل من يخالف أحكام المادة الأولى بالأشغال الشاقة المؤقتة من ثلاث الى عشر سنوات وبغرامة (المادة 7).
نشرت «الأخبار» منذ صدورها عشرات المقالات التي تعدّ إخباراً علنياً الى السلطات القضائية اللبنانية تدل على تجاوزات صارخة وواضحة لقانون مقاطعة إسرائيل، لكن بدا واضحاً أن فرض القانون في لبنان يتم وفق الصيف والشتاء تحت سقف واحد.
وقد يقول البعض في لبنان إن قانون مقاطعة إسرائيل وغيره من القوانين مثل معاهدات الأخوّة والتعاون والتنسيق بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية وغيرها من القوانين لا تلزم أحداً لأنها تخالف المبادئ الدستورية ومنظورهم للعدل. فلماذا لا يحترم مبدأ المعاملة بالمثل؟
هل تتحرك دورية لأمن الدولة بإشراف قضائي وتطبيقاً للقانون في زيارة لمقرّ تيار سياسي لا يكفّ عن الشتم والتحريض ضد رئيس دولة شقيقة؟ أو في زيارة لمؤسسة تجارية يحظى أصحابها بنفوذ في أروقة الدولة، تعقد شراكة أو أعمال تبادل «أو أي تعامل آخر مهما كانت طبيعته» مع أشخاص وشركات إسرائيلية؟ طبعاً لا، والعذر المنطقي لبعض القضاة والضباط يكون دائماً… التجاذبات السياسية وعدم رفع الغطاء… وتوجّه العهد الى تخفيف الانقسام وتثبيت الشراكة…
فلنتناول جرائم لا تجاذب سياسياً بشأنها، لا محلياً ولا إقليمياً ولا دولياً: هل يجرؤ أيّ قاض أو ضابط في لبنان أن يرفع سيف القانون لاسترداد الأملاك البحرية العامة؟ أم أن العنتريات البوليسية (بإشراف القضاء طبعاً) تقف عند أبواب الكونكورد؟