IMLebanon

وبعد مئة يوم… دقت ساعة الحقيقة والمحاسبة

رهانات كثيرة وآمال كبيرة علقت على تشكيلة “إلى العمل” التي انتظرها اللبنانيون على مدى تسعة شهور. مخاض عسير انتهى إلى تشكيلة ليست إلا صورة مصغرة عن المجلس النيابي الذي رست عليه خيارات اللبنانيين في صناديق الاقتراع قبل عام من اليوم. وإذا كانت هذه الصورة تتيح الكلام عن غياب المحاسبة الفعلية، علما أن المعارضة لم تتأخر في الوقوف في وجه ما تعتبرها خيارات خاطئة ركنت إليها الحكومة، فإن بعض المكونات الحاضرة في الفريق الوزاري انبرت باكرا إلى محاولة احتواء نقمة شعبية ما لبثت معالمها أن ظهرت بعيد انتهاء مخاض التشكيل، وذلك بفعل الخسائر الكبيرة التي تكبدها العباد والبلاد بفعل حرب تناتش الحصص العلنية التي اشتركت فيها كل الأحزاب التي خرجت “منتصرة” من الانتخابات، علما أن 50% من الناس اتخذوا قرار مقاطعة الاستحقاق النيابي الأول منذ العام 2009.

إذًا، طلبت الحكومة من ناسها فترة سماح تمتد على مئة يوم قبل الانطلاق في الحكم على أداء التشكيلة الحديثة الولادة. ولملء الوقت الضائع قبل انقضاء هذه المهلة، امتلأ الفضاء السياسي بالوعود، والالتزامات. ويبقى أبرزها على الاطلاق تلك التي قطعها رئيس “التيار الوطني الحر” وزير الخارجية جبران باسيل، في مؤتمرين صحافيين عقدهما في 2 شباط (أي بعد يومين على ولادة الحكومة) و4 آذار الفائتين، التزم خلالهما وزراء “التيار” والفريق الرئاسي بإنجاز عدد من المشاريع (بينها خطة الكهرباء). على أن الأهم يكمن في أن باسيل أعلن أن وزراءه وقعوا مسبقا على استقالاتهم، في حال فشلهم في تحقيق الوعود التي أطلقوها.

واليوم، انقضت فترة السماح التي طلبها أفرقاء الحكم، وآن أوان المحاسبة ووضع النقاط على الحروف، فيما الحكومة تناقش واحدا من أخطر الملفات: موازنة العام 2019، التي تجري المباحثات في شأنها تحت المجهر الدولي انطلاقا من الالتزامات التي قطعتها السلطات للدول المانحة في مؤتمر “سيدر”.

وفي هذا السياق، لا يغيب عن بال أحد مشهد مجلس الوزراء يقع فريسة التناقض السياسي والاستراتيجي بين مكوناتها التي اختارت التعايش القسري في جنة السلطة. ذلك أن موضوع التطبيع مع النظام السوري ما لبث أن فجر أولى الجلسات الحكومية بعد نيل الحكومة الثقة. فعلى وقع الزيارة التي قام بها وزير الدولة لشؤون النازحين صالح الغريب إلى دمشق، قافزا بذلك فوق سياسة النأي بالنفس التي التزمتها الحكومة في بيانها الوزاري، اشتعل اشتباك حكومي حول العلاقات مع النظام السوري، بعدما طرح وزراء “القوات اللبنانية” هذا الملف الساخن إلى الطاولة. فيما بدا الرئيس سعد الحريري، ومن باب حرصه على انتاجية الحكومة، يفضّل التزام الصمت وتجاوز هذه العقدة. غير أن الرياح لم تجرِ كما اشتهت السفن “الزرقاء”. بدليل أن رئيس الجمهورية ميشال عون تدخل لفض “الإشكال”، فما لبثت قضية الصلاحيات الرئاسية والحكومية، المطعّمة بنكهة طائفية، أن عادت إلى الواجهة. إلا أن التيارين الأزرق والبرتقالي سارعا إلى تطويق ذيول الاشكال لتفادي آثاره الجانبية السلبية على التسوية الرئاسية التي أطلقت العهد.

إلا أن جهود الطرفين المعنيين بهذا الاتفاق لم تجنبه الرقص على حافة الهاوية (مجددا) بفعل انكشاف خطير لتناقض المقاربات ذات الطابع الاستراتيجي بين رئيس الحكومة ورئيس “التيار الوطني الحر”، خصوصا في ملف اللجوء السوري الذي تعتبره الحكومة أولوية الأولويات. وليس أبلغ إلى ذلك إلا غياب باسيل عن مؤتمر بروكسيل (14 آذار 2019)، الذي حضره الحريري لحض المجتمع الدولي على لعب دوره في هذا المجال ومساعدة الدول المضيفة على تحمل وزر الوجود السوري الكثيف على أراضيها. في المقابل، اغتنم رئيس “التيار” ذكرى حرب التحرير للقنص المباشر على الحكومة التي له فيها ثلثا معطلا عطل كرمى له مسار التشكيل الحكومي مرارا وتكرارا. فما كان من سعاة الخير إلا أن عادوا ودخلوا على الخط لإنعاش الحكومة، ومن خلفها تسوية 2016.

على أن الموضوعية تقتضي الاعتراف للحكومة الحريرية الثالثة بنجاحها في إقرار سلة تعيينات طال انتظارها لملء شواغر المجلس العسكري، كما في إقرار خطة الكهرباء، وإن كان هذا الملف أيضا أبرز التناقضات الكبيرة بين شريكي المصالحة القواتية – العونية، وهي التي كهربت الأجواء بينهما مرارا، وهو ما أدى إلى انتظار صيغة توافقية عريضة مررت بموجبها الخطة. غير أن المعارضة كانت بالمرصاد لما تعتبره خطأ شاب القانون المواكب لمرحلة تنفيد الخطة، باعتبار أنه أتاح للحكومة التفلت من كل أطر الرقابة القانونية، ما استدعى من نواب حزب “الكتائب” و7 آخرين نقل المعركة إلى المجلس الدستوري، حيث قدموا طعنا بالقانون المذكور موجهين ضربة قوية إلى الحكومة المصرة على تأمين الكهرباء “مهما كان الثمن”. حتى إن تعيينات نواب حاكم مصرف لبنان لم تسلم من براثن الخلافات الحكومية. ففي ضوء إصرار باسيل على استبدال المصرفي الأرمني هاروت صاموئليان بشخص آخر، على عكس إرادة “طاشناق”، قذف الملف إلى غياهب النسيان، في انتظار اتفاق سياسي يبدو بعيدا حتى اللحظة.

على أن أهم المطبات التي وقعت فيها الحكومة باكرا، كان ذاك المرتبط بموازنة يريدها المجتمع الدولي والمانحون “تقشفية” بامتياز وتلحظ تخفيضا استثنائيا للعجز إلى ما دون الـ 9% من الناتج المحلي، ما يعني خفض النفقات وزيادة الواردات. فما كان من القيمين على الحكم والحكومة إلا استسهال مد اليد إلى جيوب الناس ومكتسباتهم المالية، لاسيما منها “المعاشات التقاعدية” لموظفي الدولة والعسكريين المتقاعدين، كما سلسلة الرتب والرواتب، في وقت تعلو الأصوات المطالبة بإقفال مزاريب الهدر والفساد التي يعرفها القاصي والداني، ومعالجة آثار التوظيف الانتخابي العشوائي الذي ركنت إليه أحزاب السلطة قبيل الاستحقاق النيابي. وفي وقت يبدو القرار الجريء في هذا الشأن بعيدا، لم يجد الناس أفضل من الشارع والإضراب وسيلة لإسماع أنينهم إلى سلطة لم تبدأ بعد عملية الإصلاح التي وعدت بها. ولعل مشهد العسكريين المتقاعدين يحرقون الدواليب في الشارع أبلغ من أي كلام للدلالة إلى الإنتاجية الضعيفة جدا، بل السلبية للحكومة في أيامها المئة الأولى، على أن تنطلق المرحلة الثانية اعتبارا من الأحد.