في مؤتمر يالطا في شباط 1945 أخبر رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الزعيم السوفياتي جوزف ستالين بأن بابا الفاتيكان أعلن الحرب على هتلر، فأجابه ستالين ساخراً: “كم دبابة يملك بابا الفاتيكان؟” لكن المفارقة كانت أن الاتحاد السوفياتي الذي بناه ستالين ورفاقه بقبضة حديدة سقط بعد أقل من نصف قرن، وكان لبابا الفاتيكان يومها البولندي يوحنا بولس الثاني دور ليس بقليل في خلخلة الاتحاد السوفياتي من الداخل!
ولكم تشبه هذه الواقعة ما عشناه مع بطريرك بكركي العظيم مار نصرالله بطرس صفير الذي واجه وحيداً احتلال النظام البعثي السوري للبنان بجيشه وأجهزته الأمنية السورية واللبنانية التي كانت تابعة يومها لقرار عنجر.
في أيلول من العام 2000، وبعد البيان التاريخي لمجلس المطارنة الموارنة بقيادة البطريرك صفير، لربما سأل بشار الأسد وأزلامه في قرارة أنفسهم: “وكم دبابة يملك بطريرك الموارنة في مواجهة أكثر من 40 ألف جندي سوري بدباباتهم ومدافعهم وبنادقهم؟”
ظنوا أن سيد بكركي يملك الكلمة فقط، فأوعزوا إلى من في الداخل اللبناني بشنّ حملات سياسية وإعلامية يائسة بائسة للتعرّض لرأس الكنيسة المارونية، وتجاهلوا (من كلمة جهل) أن كلمة البطريرك تنبع من إيمان عميق وترتكز على تاريخ يمتد لأكثر من 1400 سنة من المقاومة والنضال، وأن على مغاور وصخور وادي قنوبين وإيليج وميفوق وكفرحي تحطمت أعتى جيوش الغزاة والطامعين بلبنان، وكان في مواجهتها بطاركة عصيهم من خشب وقلوبهم من ذهب يعبق فيها من الإيمان والبخور ما هو قادر على إزاحة أعتى الجبال.
نعم، كان البطريرك الماروني السادس والسبعون سليل كنيسة مقاومة تبعت ناسكاً زاهداً بالدنيا وما فيها هو مار مارون، وأسسها بطريرك مقاوم بطل اسمه يوحنا مارون، وقدمت بطاركة ورهباناً وكهنة وراهبات أبطالاً وقديسين لا يزال البطريرك حجولا مثالاً لهم يقتدون به فيقدمون أجسادهم ذبيحة على مذبح حريتهم ليسلم لهم إيمانهم والعنفوان.
أخطأ الكثيرون ممن أعماهم جهلهم عن قراءة التاريخ المسيحي عموماً والماروني خصوصاً والذي جسّد رأس الكنيسة المارونية أبهى حلله ومعانيه، واضاف إليه تعلقه بلبنان الكبير، لبنان الـ10452 كيلومتراً مربعاً، لبنان الذي لجميع أبنائه بمختلف انتماءاتهم إنما ينتمون إلى “لبنان أولاً” وليس إلى أنظمة من هنا ومحاور من هناك، ولا يتبعون لديكتاتور من هنا وسلاح غير شرعي من هناك!
لم ينم سيد بكركي ولا لحظة على أمجاد “ثورة الأرز” لأبنائه اللبنانيين الذين دحروا بتضامنهم الاحتلال السوري عن وطنهم، فهو أيقن أن هذا الاحتلال المهزوم ترك خلفه ميليشيات تهيمن على مفاصل كثيرة، فواجهها بالكلام والموقف الواضحين، لكن لم يسعفه الوقت ولا الحسابات الضيقة والجشع لدى بعض أبنائه على استكمال المواجهة، ففضل تسليم الأمانة على أن يبقى شاهد زور أو على أن يُرغم على الولوج في زمن التسويات والمساومات، فانعتق في غرفته في بكركي صائماً عن الكلام المباح واكتفى بالصلاة أن يعطي الله الشبان والشابات اللبنانيات أياماً أفضل من هذه الأيام البائسة!
هل خسر البطريرك مار نصرالله بطرس صفير معركة استكمال استعادة السيادة؟ قد يتوهّم البعض ذلك للحظة، لكن تكفي مراجعة بسيطة للتاريخ ليتأكد هذا البعض أن قديسي الموارنة يفعلون فعلهم الأكبر من السماء حيث يصبح حضورهم وتأثيراً أكثر طغياناً على مسار الأمور والأحداث… وإن كنتم لا تصدقون اسألوا شربل مخلوف، ابن بقاعكفرا، تلك القرية الجردية الوادعة، كيف يستمرّ حاضراً وفاعلاً في التاريخ والبشر والنفوس بعد أكثر من مئة عام على وفاته!