لولا البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير لكان بشار الأسد لا يزال يحكم لبنان من قصر المهاجرين!
إنها الخلاصة الأساس التي يمكن التأكيد عليها بعد رحيل بطريرك الاستقلال الثاني بالجسد عن لبنان واللبنانيين.
فسليل مار يوحنا مارون، البطريرك الماروني السادس والسبعون الذي أعاد إلى الكنيسة المارونية وهجها ككنيسة مقاومة لم يرضَ بأقل من أن يحقق معجزة انسحاب الاحتلال العسكري السوري من لبنان بصلابة قلّ نظيرها في التاريخ الحديث.
لم تنفع معه كل الممارسات، لا ترغيباً ولا ترهيباً، في أن تثنيه عن تحقيق الهدف الذي وضعه نصب عينيه منذ صيف العام 2000 بعيد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان والبقاع الغربي، وأطلق صفارته مع نداء مجلس المطارنة الموارنة الشهير في أيلول الـ2000.
لم تنفع الإغراءات والضغوط عليه لزيارة قصر المهاجرين فسأل أين يقع هذا القصر، وتجاهل وجوده كي لا يسقط كرامة كنيسته ورعيته وتاريخ أسلافه، وهو المؤتمن على تاريخ مقاومة وعنفوان وكنيسة زرعت الوعر دماً وقديسين وبخوراً كي يسلم لها الإيمان والحرية!
مواجهة رأس الكنيسة المارونية وصخرتها مع النظام السوري، لم تكن يوماً مواجهة مع الشعب السوري، بل مع النظام الذي أعاث قتلاً وإجراماً بحق اللبنانيين كما السوريين، فكان مقتنعاً بأن لأي مصالحة أو تطبيع مع هذا النظام أسس وعناوين وثوابت لا تنفع أي زيارة قبل تحقيقها.
وفي خضمّ النكسات التي أصابت اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، اعتقالاً ونفياً وترهيباً وخنوعاً، أبى سيد بكركي إلا أن يحمل المشعل ويضرب بعصاه أوكار الاحتلال والوصاية والتبعية، فرسم خطوطاً حمراء لم يعد بمقدور أحد تجاهلها. ولولا عظات البطريرك صفير ونداءاته لكانت أكثرية زعماء لبنان ومسؤوليه ينتظرون بالصف الإشارات والتعليمات من حاكم لبنان يومذاك في عنجر.
ولولا البطريرك الماروني الذي حمل قضية لبنان وسيادته واستقلاله في كل العواصم والمحافل الدولية، لكان لبنان أصبح المحافظة السورية الـ17!
لولا جرأة رأس الكنيسة المارونية الغارق في التواضع لما كان تمكن أحد من كسر الحواجز الداخلية التي افتعلها نظام الاحتلال. فزار الشوف وأسّس للمصالحة التاريخية مع الدروز بقيادة وليد جنبلاط ومشايخهم الأجلاء، فأعاد بناء الوحدة الوطنية من الجبل، ولطالما كان الجبل أساس لبنان وعموده الفقري. ومنه انطلق نحو بقية الشركاء في الوطن، ما دفع الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليقول للمحيطين به: “دعوا البطريرك صفير يقول ما لسنا قادرين على قوله”، فكان غبطته بحق “حيث لم يجرؤ الآخرون”!
إنه البطريرك المتواضع والفقير الذي أبى ان يملك شيئاً او أن يطلب لنفسه شيئاً، فاستحق محبة واحترام الأقربين والأبعدين، مسيحيين ومسلمين، لبنانيين وعرباً، نظراً لوطنيته ووداعته وحزمه وصلابته.
هو المقلّ في الكلام، لكن متى تكلّم أو ابتسم أو اكتفى بتعليق زلزل الأرض تحت أقدام المحتلين والتابعين والمتزلمين!
إنه البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الذي لولاه لما بقي لبنان الذي نعرفه. نودعه اليوم وفي القلب غصّة وأمل، غصّة لرحيله وأمل بأن ما زرعه فينا لن تقوى عليه أبواب الجحيم مهما كثرت الصعاب.