Site icon IMLebanon

لبنان الشامخ ينحني اجلالاً لموتك أمام نعشك

كتب بطرس حرب في “النهار”: 

الشكر كل الشكر للرب الإلهي لأنه أنعم على لبنان بقائد وراعٍ في زمن ضاعت فيه القيادات وتشتت فيه القطيع، ولأنه أكرم هذا القائد بإرث عظيم.

مئة عام في خدمة الإنسان ولبنان. إنها نعمة إلهية حباها الله لراحلنا الكبير البطريرك نصرالله صفير.

ثم انتخب بطريركاً لم يكن أسمه بين المرشحين، أو من الأسماء البارزة لخلافة البطريرك خريش، أو ممن كانوا يوحون أنهم قد يشكّلون علامة فارقة في تاريخ الكنيسة المارونية، وكان يُنظر إليه كأحد الفعلة في حقل الرب وليس كقائد فيه، هذا في الوقت الذي كان اللبنانيون، والمسيحيون منهم، يتخبطون في الأزمات والنزاعات والحروب والاقتتال والانقسام، الذي يستدعي وجود بطريرك قادر على القيادة والتوجيه.

 

يومها لم يكن أحد ينتظر أن يكون البطريرك الجديد نجماً ساطعاً في تاريخ بطاركة لبنان وبطريركاً عظيماً وقائداً وطنياً كبيراً.

إلا أن العناية الإلهية بعثت في البطريرك الجديد، بالإضافة إلى زهده المتناهي وترفعه وقداسته، روح القيادة لقطيعه، ما جعل بكركي مرجعاً وطنياً لكل اللبنانيين في تلك الأيام المظلمة، وما حوّل الأنظار إلى سيدها، تنتظر مواقفه وإرشاداته، وقاد مسيرة لبنان وحافظ على وحدته في وجه نزعات التقسيم لدى البعض، وما حوّل بكركي إلى منبر للجهر بالحق والتمسّك بالقيم، وإلى موقع لمقاومة كل تطاول على سيادة لبنان وحرية اللبنانيين، وإلى مسؤولة عن مصير الوطن والشعب.

وقد تمكن البطريرك من الجمع بين دوره الروحي ودوره الوطني، إذ بقي، في الوقت الذي تحول فيه إلى زعيم وطني كبير، وديعاً متواضعاً متسامحاً فقيراً محباً، ورمزاً للفضيلة والنقاوة والقداسة كأحد تلاميذ المسيح الأولين، غير عابئ بمكاسب الدنيا ومباهجها، ما أهّله لدوره القيادي والوطني.

فالبطريرك صفير كان دائب البحث عن الحقيقة. عين ترعى الرعية، وأخرى لا تنام إلا في منازل القديسين، وكأنما القدر زرعه في تلك المرحلة ليكون قدراً محتوماً في أزلية لبنان، وسيفاً مصلتاً على رقاب الذين تطاولت رقابهم على عنق لبنان، ورادعاً للذين حاولوا بيع لبنان في سوق النخاسة.

فلا عجب أن تعلقت القلوب والنفوس به، لأنه كان في أدائه مثالاً للأجيال المتعطشة للعمل الوطني الشريف، يعلّمهم كيف تُصان الحرية وتُعاش الوطنية الصحيحة، ولا غرابة في أن أكون شخصياً ممن آمنوا به، مرجعاً وطنياً ومنارة تهدي الضالين، نلوذ إليه في الشدائد، ما جعل علاقتي به علاقة مميزة عميقة ثابتة، ملؤها التعاون والتشاور والصداقة والمحبة، وما سمح لي أن أتشرف بخوض معركة استعادة الوطن والسيادة والاستقلال إلى جانبه.

حافظت بكركي معه على دورها التاريخي، حامية لحرية اللبنانيين، وقلعة الممانعة في وجه الاحتلال والوصاية، وهو من قال إننا “إذا خُيرنا بين لبنان والحرية لاخترنا الحرية”، لأنه كان يعلم أن لا معنى ولا ديمومة للبنان دون الحرية.

فهو من سطّر المستقبل بحروف نورانية ترسّخت في ضمير الشعب اللبناني قيم حرية وعدالة وكرامة، فأصبح أميناً على مجد لبنان وعلى بقائه وديمومته، شهيداً في حبه، يحضن الكيان ويخلص له، رغم محاولات اليوضاسيين تشويه هذا المجد.

مجده، أنه اختصر وجسّد أمجاد اللبنانيين كلهم، مسيحيين ومسلمين، عراقة في الأصول، أصالة في الرأي، جرأة في القول، ثبات في الموقف، تسامح مع المسيئين إليه، صلابة في وجه المعتدين، وجهاد ضد الظالمين أو المتطاولين، أمين على طائفة، جامع للطوائف، مختصر للطائف.

لم يردعه تهديد أو وعيد، ولم يرهبه تطاول عليه، أو على بكركي، ولم يقعده تعرضه للإهانة الشخصية، وحتى الجسدية، للسكوت عن الباطل في وجه بعض المغامرين بمصير لبنان ومسيحييه، المتعطشين للسلطة، كما لم توقفه إهانات المنحرفين الأذلاّء، بل بقي صامداً مؤمناً بأن الحقيقة تحرر، وأن الحق وحده قادر على إحياء لبنان الموعود.

لم يقعده إتهامه بأنه يتجاوز دوره الروحي ويتعاطى السياسة، لأنه كان يعيش المبادئ الوطنية والقيم التي قام عليها لبنان، فلم يناصر فريقاً سياسياً في وجه آخر، بل قام بواجب الراعي الأمين لحماية القطيع، والتزم ثوابت بكركي التاريخية التي قام عليها لبنان، فالتقى موقفه مع من كان يعمل بهديها من السياسيين، وافترق عنه من خرج عنها.

وإن كان من المستحيل إختصار مسار هذا البطريرك العظيم المليء بالإنجازات الكبار في سطور، إلا أنه لا بدّ من أن التاريخ سيسجّل له مواقف عديدة وأهمها :

 

– موقفه الشجاع في إعلان دعمه للإتفاق الوطني الذي تحقق في الطائف، والذي انبثقت عنه وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب في لبنان، وتعاليه فوق الجراح والإهانات التي تعرّض لها إثر ذلك، وروح المسامحة التي تحلى بها تجاه من اعتدى على حرمة البطريركية، وعليه، ومن وجّه الإهانة له، ما يذكّرنا بقول السيد المسيح على الصليب: “أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدركون ماذا يفعلون”، وها أن الجميع اليوم يتمسكون بذاك الاتفاق كخشبة خلاص للبنان ولمسيحييه، ولا سيمامن قاد تلك الحملة ضده.

– رفضه إخضاع النظام السياسي للوصاية السورية بفرض إنتخابات نيابية عام 1992، فوقف، ووقفنا معه، ضد إجراء تلك الانتخابات الصورية، ودعم موقفنا بمقاطعتها، ما رفع عن المجلس الذي انبثق عنها صفة الشرعية الشعبية.

– أخذ المبادرة لإصدار مجلس المطارنة عام 2000 موقفه التاريخي المتضمن المطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان وحصر السلاح بيد السلطة الشرعية، ولا سيما بعد تحرير الجنوب، وحل ميليشيا حزب الله وتسليم سلاحه للدولة اللبنانية، ورعايته ودعمه للقاء قرنة شهوان الذي أطلق ثورة الأرز، ونجح في إخراج السوريين من لبنان بعد مساندة معظم القوى السياسية غير المسيحية للموقف، ما شكّل الإنجاز الأهم بعد إعلان استقلال لبنان عام 1943، والذي اعتبر الاستقلال الثاني للبنان.

– تمسكه بوحدة اللبنانيين ورعايته مصالحة الجبل التاريخية التي طوت صفحة المأآسي لإيمانه بأن لا ديمومة للبنان ولا أستقرار فيه إلا بوحدة أبنائه.

إن مسار من نفتقد اليوم يضعه في لائحة الشرف للبطاركة القديسين الشهداء الذين بذلوا حياتهم حماية لحرية معتقدهم وشعبهم، وللبطاركة العظام الذين سطّروا صفحات مجيدة في قيامة لبنان وتراثه وفي تاريخ الموارنة، كالبطريرك الماروني الأول يوحنا مارون والبطاركة الدويهي والحويك.

فوجوده بيننا في هذه الحقبة المظلمة من تاريخنا كان هبة إلهية منحتنا قائداً شجاعاً ورسولاً للقيم والفضيلة ورجل حوار ساهم في إنقاذنا، رجل لا تعرف الخيبة طريقاً إلى قلبه ولا حدود للرجاء في إيمانه بحيث يصح فيه ما قلت فيه يوم منح جائزة الرئيس الهراوي:

الرب نقّاه فراح ينقّي

والرب منحه الحكمة فراح يوزعها

والرب أناره فراح ينير

والرب قرّبه منه فقرّب الآخرين إليه.

لقد كان كاهن الناسوت واللاهوت، فالناسوت للأنقياء واللاهوت للأتقياء،

فكان النقي والتقي،

وكان صوت الذين لا صوت لهم ونصير الضعفاء،

وكان صوت الحق لمن لا يستطيع الدفاع عن حقه، صوت الإرث الحضاري، بما فيه من قيم روحية وإنسانية ووطنية، وخسارته كبيرة، ولو كانت وفاته حتمية وستنقله إلى رحاب الرب، الذي سيكافئه على حسن إدارته للوزنات.

إلا أن التاريخ سيدوّن غداً أنه عظيم بين الأحبار، وأنه صان الصيغة بكهنوته وناسوته، وصان الوطن بحكمته ونضاله وتضحياته.

واليوم يودّع لبنان كبيراً كبيراً من أبنائه، قام برسالته ورقد مرتاح الضمير أنه أدّى قسطه للعلى، وهو من قال:

“أنا تراب، منه جُبلت وإليه أعود، وقد جاهدت كل حياتي لأستحق لقب الحقير الذي حمله أسلافنا الذين عاشوا بتواضع وكرامة وكرّسوا ذاتهم للخدمة.”

فنم يا سيدي لقد كنت كبيرا’ وعظيما’ في حياتك ومماتك لقد استحقيت لقب القديسين من أسلافك، راجياً إياك أن تصلّي للبنان من عليائك ليحفظه الله من أعدائه، ويصونه من ممارسات بعض أبنائه، ويوقظ ضمائر الفاسدين المتسلطين لكي يبقى لبنان وطن الحرية والكرامة والقيم، فلا تضيع تضحياتك وجهودك.

كما أرجو أن تصلّي لكي تبقى بكركي منبع شهداء الحرية والوجود والضمير، وأن تبقى حقيقة لبنان، وأن يبقى التسامح والسلام كتابها، والقيم رسالتها، والمحبة موائدها، وأن تبقى شاهدة للحق والحرية. مع الأمل أن يكون غياب بطريرك عظيم، كمن نودّع، سقوطاً لعامود أساسي من الهيكل، لا سقوطاً للهيكل بكامله، وأن يبقى الراعي الذي خلفك المرجع والمرشد والحصن لبقاء الوطن.