Site icon IMLebanon

“التشاطر اللبناني” ينكشف.. وداعاً دولة الرفاه!

تمضي رحلة الحكومة، بحثاً عن موازنة استثنائية (بلغة جبران باسيل) أو رشيقة (بلغة وزير الإعلام) أو تمنع الإنهيار بلغة هذا المسؤول أو ذاك إلى مستقرها الأخير: إعادة النظر بالرواتب والأجور والتقديمات لموظفي القطاع العام، سواء أكانوا من المدنيين، على اختلاف الأسلاك، أو عسكريين على اختلاف الأجهزة والوحدات، وسائر السلطات العامة..

اللعبة كلها في الرواتب والأجور، أمَّا الدور الوظيفي الإقتصادي، للاقتصاد اللبناني، والإصلاحات البنيوية، فهي ليست على الطاولة الآن..

أمَّا إعادة هيكلة الوزارات والإدارات، وحجم النفقات والسفريات، والحفلات والجمعيات، فلم يحن الوقت لبحثها بعد..

ومن وراء هذه اللعبة، تنكشف احتمالات، واتجاهات، تكشف بدورها عن طبيعة الدور المناط بهذا البلد، في غمرة تحولات بالغة الدقة والحساسية، إن على مستوى اقتصاديات الدول الكبرى ومصالحها، وإن على مستوى الوظائف الإقليمية التي هي موضع إعادة النظر، لجهة تقليم أظافر الإسلام السياسي من تركيا أردوغان إلى إيران الإمام الخامنئي.. مع الأخذ، في عين الانتظار، أن الكلمة العليا هي للتحالف البروتستنتي – اليهودي، المتوسع إلى المسيحية الانجيلية، أو الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية، التي أوصلت أحد أغرب شخصيات اليمين إلى البيت الأبيض، أعني به الممثل والاذاعي والتلفزيوني، الذي صار من أباطرة تجار العقارات دونالد ترامب.

قد يكون البحث عن الهدر المالي في الدولة اللبنانية التي تبدو أنها دولة خارج القانون، أو بلا قانون، أو دولة اللاقانون، بعد ان كانت دولة قانون، بكل معنى الكلمة، حتى بعيد حرب السنتين، وإمكانية وقفه، يأتي من باب الرواتب والأجور، الأمر الذي فتح الباب، لتدخلات مباشرة من ممثّلي البنك الدولي وصندوق النقد، على خلفية مساعدة لبنان، باقتصاده المتهالك على العودة إلى سكة النمو، والإنعاش، عبر إجراءين متلازمين، الأوّل إدخال إصلاحات بنيوية على الموازنة، والثاني الإستعداد للاستفادة من قروض مؤتمر «سيدر»، التي لا يُمكن الاستفادة منها، من دون القبول بالشروط التي يضعها البنك، وهي شروط أقل ما يقال فيها، أنها تأتي في أغلب الأحيان قاسية، لا تنسجم كثيراً مع الأوضاع العامة في البلدان التي تحتاج إلى قروض، ومنها لبنان، حرصاً على إمكانية السداد، أو الوفاء بالالتزامات.

والشرط الثاني، ان القروض التي وصفت بالميسرة، لا تصرف إلا لأغراض تتعلق بالبنى التحتية، كالطرقات والاتصالات ومرافق الموانئ والكهرباء ومصادر الطاقة..

والبنك الدولي، وفقاً لنظامه الأساسي واعرافه، غير معني بمواجهة العجز في ميزان المدفوعات، الذي بلغ في لبنان، سقفاً مخيفاً، بحيث تلتهم المديونية، ما لا يقل عن 100٪ من إجمالي الناتج المحلي..

وبصرف النظر عن التوازن في العمليات الاقتصادية، لجهة سقوف الفوائد، وعمليات التحويل، للوفاء بالمتطلبات الاتفاقية للدولة، انصرفت الأنظار إلى إعادة النظر بموازنة الوزارات، ونفقات الدولة، ومصاريفها، في ما خصَّ رواتب العاملين فيها، وصولاً إلى المتقاعدين، الذين لم يشفع لهم خروجهم من الخدمة، من دفع ضريبة، مفتوحة، لجهة تآكل رواتبهم، وتناقص التقديمات التي يستفيدون منها..

تكشفت عمليات فحص مكوّنات الراتب على الرغم من ان سلاسل رواتب القطاع العام منذ العام 1998، والتي شكلت تحولاً، في عهد حكومة الرئيس رفيق الحريري، على طريق إعادة بناء الطبقة الوسطى، بعدما كانت بلغت رواتب العسكريين والأساتذة والمدرسين، وسائر موظفي الدولة حداً لا يسمح معه بتوفير أدنى متطلبات الحياة.. (بين 30 و100 دولار شهرياً).

أحيت السلسلة المشار إليها حينها، ما يُمكن وصفه بنظرية «الجنة الوظيفية»، وارتبطت بإجراءات وتوجهات إصلاحية، في مجال الوظيفة العامة، كسياسة الحساب والعقاب والثواب، وانتاجية الوظيفة، والدوامات والإجازات والعطاءات وما شابه، لم ينفذ منها، إلاَّ أمر واحد هو الحصول على الوظيفة وساعات العمل، ونظام الرواتب الغريب العجيب، سواء في هذا السلك أو ذاك، إلى درجة أثارت حفيظة العاملين على خط مساعدة لبنان على إنجاز موازنته، وترتيب اوراقه المالية، في الطريق إلى «الجنة الموعودة» (ليس في عدن بل في «سيدر» الباريسية)..

بالنسبة للعسكريين، طرحت مسألة التدبير رقم 3، وما يترتب عليه، من أموال تقدر بالمليارات، من دون ان يكون أي مسوّغ عملي، أو قانوني لذلك.. فوضع على مشرحة إعادة النظر أو الإلغاء.

وبالنسبة للعسكريين أيضاً، طرحت قضية التجهيزات العسكرية، والتي تدخل في صلب الراتب التقاعدي للعسكري الذي ينهي خدمته، وفوجئ مستشارو البنك الدولي بهذا البند، ما دام العسكري أصبح خارج الخدمة كيف يُمكن ان يمضي في الحصول عليه، وهو كان مفهوماً عندما كان في الوظيفة.. إلى آخر ما أثير واقترح على هذا الصعيد.

وبالنسبة للمدنيين، طرحت تقديمات الرواتب 14 و16 شهراً، مع العلم، ان السنة 12 شهراً، وليس أكثر، فكيف يعطى موظفون في بعض المصالح المستقلة، رواتب ومخصصات، لا تتفق مع أنظمة الرواتب والعطاءات في القطاع العام في العالم..

هكذا، مرَّت الجلسات الأولى حول إجراءات تتعلق بالموظفين، بإنقاص رواتب الشهر الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، إلى رواتب ضمن المعمول به عالمياً، إضافة إلى قضية الجمع بين الراتبين، وأكثر من راتب، علماً ان قانون الوظيفة العامة يمنع الجمع بين الراتبين، ما خلا ساعات التدريس المسموح بها قانوناً للقضاة، وموظفي التعليم ما قبل الجامعي وسائر موظفي الدولة.. وبنصاب من الساعات، لا يتجاوز الـ6 ساعات أسبوعياً.

تحدثت إجراءات الموازنة التقشفية عن إعادة توزيع للعبء بين طبقات المجتمع وفئاته، وشرائحه، بدءاً بالطبقة السياسية التي اقترحت ان يخفض 50٪ من مخصصاتها، من دون البت بنظام تقاعد النواب، على الرغم من ان اثرياء البلد الكبار، وهم رجال أعمال، أو أطباء مرموقون او ضباط متقاعدون أو محامون، يديرون شركات، أو وكلاء مصالح عبر العالم، وليس فقط في لبنان!

تبحث المصارف عن خيارات رفع الضريبة على فوائد الودائع المصرفية للمصارف والأفراد. والمصارف، ما يعنيها، في هذا الموضوع، هي الضرائب التي تطال أرباحها، لا حقوق المودعين، الذين يعيش عدد كبير منهم، مما يترتب لهم من فوائد..

ضمن عملية حسابية بسيطة: عجز الموازنة، يجب ان يلامس 10٪، إذاً كل أبواب النفقات، يجب ان تلامس 10٪ أو تتعداها..

في ملف الرواتب، يُؤكّد مصدر وزاري معني ان التخفيض حتمي، لكن النقاش يدور حول نسبته، والفئات الوظيفية والقطاعية والمصالح والأسلاك التي سيستهدفها أو يطالها، فضلاً عن مدته واستمراريته وشكل ذلك: اقتطاع نهائي يؤثر على نسبة التقاعد، أم عبر سندات خزينة، يعاد إلى صاحبه بعد ثلاث سنوات.

والناحية الحتمية الثانية، ان دولة الرفاه الاجتماعي، اللبنانية، آذنت بالإنتهاء.. وأن حقبة الترف اللبناني، سواء أكان اللبناني فقيراً أو غنياً، ذهبت إلى غير رجعة؟!

لن يكون بإمكان التشاطر اللبناني، ان يجعل المواطن ينجو تماماً من العقوبات المالية الأميركية، ولن يكون بإمكان التذاكي اللبناني، ان يذهب بعاصفة «الموازنة التقشفية»، ويحمي جماهير الموظفين صغاراً كانوا أو كباراً..

في لبنان ترفض النقابات تحميلها مسؤولية الأزمة، وتمنع الشركات والمصارف المسّ بأرباحها.. السويد دولة الرفاه الاجتماعي النموذجي في العالم تبنت في الثمانينات سياسة خفض قيمة العملة.. فماذا تراها فاعلة دولة لبنان في مواجهة التقلبات الهائلة من الإقليم إلى عموم دول العالم؟!