كتب ريمون شاكر في صحيفة “الجمهورية”:
تتكرّر مأساتنا وتتعاظم مشكلاتنا لأننا شعب جاهل لـم نُحسن إختيار قادة سفينتنا منذ زمن بعيد، ولأنّ التعصّب الطائفي والمذهبي أعمى قلوبنا وعقولنا فاتـجهنا نـحو الـهاوية بـملء إرادتنا ونحن نصفّق إبتهاجاً لعنتريّـات ووعود زعمائنا.
ما يصيب بلدنا اليوم، هو شبيه جداً بـما أصاب اليونان. وقد إستشعر الرئيس سعد الـحريري هذا الـخطـر «متأخّراً» كثيـراً وأطلق تـحذيراً مدوّياً، ولكنّ معظم الـمسؤوليـن طـمروا رؤوسهم فـي الرمال وراحوا يتقاذفون الـمسؤولية ويلقون تـِهم العجز والـهدر والفساد على الأفرقاء الآخريـن.
لم يتحرّك الـمسؤولون في اليونان، إلّا عندما وصل العجز فـي الـموازنة إلى %13. حينها، أدركوا أنّ سياساتـهم الإقتصادية والإجتماعية فـي العقود الثلاثة الأخيـرة أوصلتـهم إلى حافة هاوية الإفلاس. هكذا فعل الـمسؤولون عندنا، وانتظروا من دون وعي ولا مسؤولية إلى حين بلغ العجز %11.5 ومن دون إحتساب مستحقّات المتعهّدين والـمستشفيات وأموال الضمان الإجتماعي وغيرها.
فالأسباب التـي أوصلت اليونان إلى شفيـر الإفلاس، هي نفسها تقريباً التـي أوصلتنا إلى الـهاوية: إستشراء الفساد السياسي والقضائي والإداري. ضلوع كبار رجال الطبقة السياسية الـحاكمة فـي خدمة مصالـحهم الـمالية. التـهرّب الضريبـي، وعجز الدولة فـي جـمع الضرائب. إرتفاع الفائدة على الدين العام. ضعف البنية التـحتية. سوء إدارة موازنات الدولة والفساد الـمتعدّد الأبعاد، من رشوة وتـهرّب ضريبـي، وعمولات غيـر مشروعة، وارتفاع عدد الـموظفيـن فـي القطاع العام، وانـخفاض الإنتاجية. الإرتفاع القياسي فـي نسبة البطالة. إزدياد عدد الـمتقاعديـن. وضعف مستوى التنسيق بيـن مؤسّسات الدولة ووزاراتـها…
إنها الأسباب نفسها التـي جعلتنا نصل إلى شفيـر الإفلاس، ونضيف عليها عاملاً آخر أساسياً، هو الفشل الذريع والـهدر الـمخزي فـي ملفّ الكهرباء، الذي كلّفنا ما يقارب 36 مليار دولار، ولـم نزل من دون كهرباء.
لقد بدأت الأزمة اليونانية، مع إنتشار الـمخاوف بيـن الـمستـثمريـن حول عدم قدرة اليونان على الوفاء بديونـها نتيجة الزيادة الـحادّة لـحجم الدين العام، وقد أدّى ذلك إلى أزمة ثقة فـي الأسواق الـمالية إتضحت بارتفاع الفائدة على السندات اليونانية. ومع تزايد حجم الديـن العام وارتفاع عجز الـموازنة، واجه الإقتصاد اليونانـي ضعفاً فـي الـنموّ مـا صعّب من قدرة الدولة للـحصول على قروض جديدة لتسديد ديونـها السابقة.
وهذا تـماماً ما نـحن واقعون فيه، إذ أضعنا الثقة بقدرتنا على معالـجة الـمشكلات البنيوية فـي إقتصادنا وماليتنا، وضربنا عرض الـحائط بـتـحذيرات الـمؤسّسات الدولية، فتوقّف الدائنون والدول الـمانـحة عن تلبية طلباتنا ومساعدتنا.
لم تخرج اليونان من أزمتها إلّا بعدما قامت بسلسلة إصلاحات فـي الإدارة وفـي مـحاربة الفساد، وبعدما وافق البرلمان اليوناني على سلّة شروط قاسية فرضتها مـجموعة الدائنين الدوليين، حاول البرلمان تـجنّب إقرارها لوقت طويل.
لـم يبادر الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي فـي مساعدة اليونان، إلّا بعدما تأكّدا أنّ الإجراءات الإصلاحية التـي إتـخذتـها الـحكومة جدّية وقادرة على كبـح جـماح عجز الـموازنة، والتـي إستهدفت وقف الـهدر والفساد والتوظيفات السياسية، وخفض إجـمالـي النفقات العامة، على الأجور والرواتب من %1 إلى %5.5، وتقليص مكافآت العمل الإضافـي والتقاعد وبدلات السفر، ورفع الضرائب على القيمة الـمضافة وعلى السيارات الـمستوردة والـمحروقات.
لـم يتجاوب الشعب اليونانـي مع الإجراءات الـحكومية إلاّ بعدما تأكّد أنّ أموال الـخزينة مـحفوظة فـي أيدي أمينة، وأنّ درج الفساد قد بدأ شطفه من فوق، وأنّ موازنة الدولة تُـقَرّ فـي موعدها بشفافية مُطلقة مع قطع الحساب.
إنّ الـمشكلة الأساسية التـي يعانـي منها وطننا، هي عدم ثقة الشعب بحكّامه، وعدم إقتناعهم بـجدوى الـحلول التـي يقتـرحونـها لإنقاذ البلد والإقتصاد. وخيـر دليل على ذلك، هو الـموازنة التـي وضعتها الدولة عام 2018 والتـي زادت العجز %3 بدلاً من خفضه، وعدم تقديـم قطع الـحساب. فالعمل الصحيح والـجدّي، ليس فقط فـي الـموازنة العامة للدولة، وإنـما فـي الـحساب الـختامـي الذي هو الـمحكّ الرئيسي لتنفيذ إلتـزامات الدولة كما أُقرَّت فـي البـرلــمان.
واللافت فـي مشروع موازنة عام 2019 هو أسلوب تأجيل الـمشكلة بدلاً من معالـجتها، لأنّ البنود الإصلاحية فيها متواضعة جداً ولا تلامس جوهر الـمشكلة. فالـموازنة العامة للدولة ليست مـجرّد بيان يتضمّن الإيرادات العامة والنفقات العامة فـحسب، وإنـما هي أيضاً الأداة الرئيسة التـي يـمكن من طريقها تـحقيق مـجموعة من الأهداف، أهمّها: الـمساعدة فـي ترشيد الإنفاق الـحكومي. والـمساعدة فـي تـحقيق التنمية الإقتصادية. والـمساعدة فـي تـحقيق العدالة الإجتماعية.
لذلك، فالـمشكلة الإقتصادية والـمالية لا تـُحلّ إذا خفّضت الـمصارف الفائدة على الديـن العام، ولا فـي زيادة الضريبة على فوائد الـمودعيـن، ولا فـي إقتطاع بعض تعويضات التقاعد.. المشكلة أكبـر وأعمق بكثيـر من كل الإجراءات الـملحوظة فـي مشروع الـموازنة، وتتطلّب قبل كل شيء مصارحة الشعب بالواقع الـمأساوي الذي وصلنا إليه بشفافية وصدق، وتطبيق خطة «ماكنـزي» وإصلاحات «سيدر» والتـخلّي عن «الأنا» والإبتعاد عن «الشعبوية» الرخيصة، واتـخاذ قرارات جريئة وشجاعة يتوافق عليها رؤساء الـجمهورية والـمجلس والـحكومة وزعماء الأحزاب قبل فوات الأوان، لأننا جـميعاً فـي سفينة توشك أن تغرق، ولا بدّ من أن يتخلّى كل واحد منّا على جزء بسيط مـمّا يـحمل أو «يـملك» كي لا يكون مصيرنا الغرق.