كتب ابراهيم شمس الدين في “النهار”:
في البطريرك صفير نقولُ قليلاً ونحفظُ كثيراً، لا لقلّة ما يمكنُ أن يُقال، إِذْ كُتِبتْ في ذلك كتبٌ، إنّما نتأدّبُ بأدبِ هذا الرّجل، هذا اللبناني، هذا المدرسةِ وهذا الكنيسة. وهو كان يُقِلُّ من الكلامِ ويحفظُ الكثيرَ مما يُقالُ في مَحضرِه، ويحفظُ الكثيرَ من الناسِ أيضاً، ليس حفظ الذاكرةِ فقط لكن حفظ المرءِ أيضاً حتّى من نفسِهِ. فعلى مدارِ ربعِ قرنٍ في سُدّةِ البطريركيّةِ، مرّ عليه رجالٌ كثيرون، لا بل مرَّ عنده رجالٌ كثيرون، ومرّوا عنده بأحوالٍ كثيرةٍ ومتعدّدةٍ، رآهم في أَحوالٍ مزهوّةٍ ومُشرِقة كما رآهم في أَحوالٍ كَلْمى وكَليلة، رآهم في انتصارٍ وإقبال، ورآهم في انكسارٍ وإدبار، رآهم في وجهٍ وبَصِرَهم في أَوْجُه، رآهم بلسانٍ وسمعَهُم على ألْسِنة.
ويبقى البطريركُ رجلاً في التاريخ وليس رجلاً من التاريخ. لم يكن البطريرك رجلاً قديماً ولا عتيقاً في فكرِه، وأحداثُ السنواتِ الأخيرةِ والتغيّراتِ السياسيّة دلّتْ على صحّةِ موقفِهِ القديم. ليست اللبنانيّةُ تهمةً، ولبنانُ ليس تهمةً في التاريخ؛ لبنانُ وطنٌ حقيقيٌّ ووطنٌ نهائيٌّ لا يُضَمُّ ولا يُجَرُّ، وهو ليس مِلْكُ يمينِ أحد، ولا جاريةَ أحدٍ ولا حريمَ أحد. هو ملكُ أبنائِهِ اللبنانيين، وهم أسيادُه، ودولتُه دولةُ لبنانيةٌ وطنيةٌ مدنيّةٌ لا تملُكُها الأحزابُ وان استقوتْ عليها، ولن تهشّمَها الحزبياتُ وإن أوغلتْ فيها لضعفٍ أصابَ بعضَ رجالِها قديماً وحديثاً، ممن مرّ على البطريرك وممن لم يمرَّ عليه، لكن تمرُّ السنونُ ويبقى لبنانُ وطناً حقيقيّاً وليسَ حديقةً أماميّةً لأحدٍ ولا فُتوحاً لأحد.
إنّ متانةَ الموقِفِ ووضوحَ الرؤيةِ وتحمُّلَ الصعوباتِ والصبرّ عليها من ميزِ الرجالِ الكبار، والبطريركُ صفير كان مِن هذا الصَّنْفِ من الرجالِ الكبار.
ثبتَ في موقفٍ هو اختارَه، ولكنَّهُ موقفٌ لكلِّ لبنان؛ تحمّلَ المتغيّراتِ ولسعتْهُ الأَلْسُنُ واتّهمتْهُ الرؤوسُ الحاميةُ والمتسرّعةُ التي لم تكنْ ترى إلاّ نفسَها.
هو والراحلُ الكبيرُ الشيخ محمد مهدي شمس الدين ثبتا في علاقةٍ وطنيةٍ صحيحةٍ يتحمّلان، كلٌ في موقِعِه، وطأةَ ما انهارت أمامَهُ رجالٌ، وكلٌّ منهما بقيَ عَلَماً دليلاً لمن يريدُ أنْ يهتدي و لمن لا يريد أنْ يفقدَ الأمل. كلاهما أنقذَ اتفاقَ الطائفِ الذي أخرج لبنانَ من حربٍ واللبنانيينَ من مهالِك، وكلاهُما وثقَ بالطاقمِ السياسي للإبحارِ بالطائِفِ إلى حيثُ كان ينبغي أن يَصِلَ وأن يُوصل. ولكن بوصلةَ الطبقةِ الحاكمةِ خانت الطريقَ وثقبت مركبَ الطائِفِ وتَعْتَعَتْ باللبنانيين وجعلتْهُم سكانَ حُجُراتٍ مُظلمةٍ بالفَقر ومُتباعدة بالمذهبية، تُفْضي إلى فناءاتٍ مختلفةٍ ومتفرّقةٍ وليسَ إلى فناءٍ واحد وإلى بيت وطنيٍ واحِد.
البطريرك صفير الذي بقيَ – رغمَ كلِّ شيء – ورغمَ التخويفِ الكثيرِ ورغم ذُعرِ البعض، بقيَ حريصاً ومتمسِّكاً ومؤمناً، وهو كان رجلَ إيمان، بالعلاقةِ الصحيحةِ والشّراكةِ الوطنيةِ المُعافاةِ مع المسلمين اللبنانيين.
لم يكنِ البطريركُ يخافُ أو يُخوَّف، ولكنّه ككلِّ رجلٍ عاقل كان يتهيّبُ الأمورَ عندَ اتّخاذِ القرارات الكبرى، و كان بالتالي يأخذُ القرارَ ويثبتُ عليه، ويَصبرُ على ما يصير. وفيما أرى ورأيت في السنوات الماضية، كان ثباتُه صحيحاً.
البطريرك مار نصر الله بطرس صفير كان رجلاً واحداً، صحيحٌ.. ولكنّه كان صيغةً متكاملة وأطروحةً متماسكة.
هو الشيخُ البطريرك.. شيخٌ في الشراكة الوطنيّةِ وبطريركٌ في اللبنانية.