كتب مجد بو مجاهد في “النهار”:
يكفي الرجوع إلى شهادة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في زيارته التاريخية لدارة المختارة في آب 2001، لإدراك عمق العلاقة التي ربطت بكركي بالجذور الجنبلاطية عبر التاريخ. فالعلاقة التي قامت بين البطريركية المارونية وآل جنبلاط، والعديد من وجهاء الموارنة وعامّتهم، هي علاقة قديمة، وصلت إلى الذروة في زمن السيدة نظيرة جنبلاط، التي اصبح اسمها رديفا للحكمة والوعي والحنكة السياسية. وقد عرفت كيف تحافظ على علاقة احترام متبادل مع المطارنة الذين تعاقبوا على الكرسي، ومن بينهم المطران اغوسطين البستاني ابن دير القمر، وخلفه المطران انطونيوس خريش، على السدة البطريركية. وقد عُرف كمال جنبلاط بزياراته الدائمة للكرسي البطريركي وما كان له من علاقة وطيدة مع البطريرك بولس بطرس المعوشي، ابن جزين، جارة المختارة.
وكُتب لهذا الخطاب الاستحضاريّ الذي ألقاه صفير نفسه أمام حشودٍ شوفية غفيرة بادلته الترحيب وقدّرت بعشرين ألفاً، أن يكون مدعاة استحضارٍ وتأريخ، وأن يكتب الصفحة الأولى الأكثر عمقاً من محطات بكركي – المختارة، تحت عنوان المصالحة. كان ذلك في الرابعة والنصف عصر يوم طوى صفحة النزاعات والحروب. “صاحب الغبطة، هل تسمح لي بأن اقول ان حرب الستين ورواسب حرب الستين انتهت الى غير رجعة؟ وهل تأذن لي ان اعلن ان حرب الجبل قد ولت الى غير رجعة ايضا؟ معكم نحمي الجبل، نحمي لبنان ونحمي العيش المشترك في كل مكان”. سطور حاكها جنبلاط وحكاها، مصافحاً “الضيف الكبير”، كما وصفه، فإذا بسواعد المصافحة تغدو حطب “ثورة أرز” بعد سنوات. “اذا كان هناك مَن لم تبلغهم نعمة المصالحة، فاننا نأمل أن يتمكنوا بمساعيكم المشكورة من ان ينعموا بها، لتعمّ الفرحة جميع القلوب وتغمر جميع النفوس. وليس مَن يجهل ان الوطن لا يمكنه ان يستعيد عافيته الا بتضافر جهود أبنائه، الذين عليهم ان يتصارحوا ويجاهروا بالحقيقة التي وحدها تنقذ”، كما ورد في ردّ صفير على جنبلاط.
العلاقة بين بكركي والمختارة في حقبة الألفية الثالثة، يصفها النائب السابق فارس سعيد بأنها “تطورت من علاقة اجتماعية قائمة على قاعدة الاحترام المتبادل، الى علاقة سياسية بعد نداء مجلس المطارنة الموارنة في 20 أيلول 2000، بعد الهجوم المبرمج من الجانب السياسي المسيحي وقتذاك على البطريرك، تحت عنوان أن كل من يطالب بخروج الجيش السوري من لبنان هو عميل اسرائيلي. وزادت الاتهامات التي كان هدفها محاصرة البطريرك ومنعه من الانفتاح، لكن الرئيس عمر كرامي كان من كسر الحصار بعد زيارته لبكركي.
وتجلى التقارب بين جنبلاط وبكركي في خطابه الشهير في مجلس النواب، أثناء مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس رفيق الحريري آنذاك، فوقف وضم صوته الى صوت البطريرك داعياً الى إعادة انتشار الجيش السوري، ما اسفر عن هجوم طاول جنبلاط من داخل المجلس. وفي 30 نيسان 2001، تُلي البيان التأسيسي لـ”لقاء قرنة شهوان”، وأعقبته محطة إنشاء “المؤتمر الديموقراطي” في 12 أيار 2001، والذي كان جنبلاط من أبرز الداعمين لانشائه”. وهنا يلفت سعيد الى أن هذه المعطيات مهّدت لزيارة البطريرك صفير للمختارة، “فكانت المصالحة التي شكلت أول خرق في اللقاءات العابرة للطوائف. فكسر لقاء المختارة الحاجز الذي فرضه زمن الوصاية بين الطوائف، وكان الرد عبر أحداث 7 آب. واستمرت العلاقة بين المكونين، وتوطدت بعد التمديد للرئيس اميل لحود واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري”. ويخلص سعيد الى أن “لا أحد مثل الموارنة والدروز يدرك في لبنان معنى المصالحة وكلفة الخلاف”.
البطريرك صفير، من منظار الشاهد على الحقبات الجنبلاطية عزّت صافي، “هو بمثابة الطبيب المهدّئ الذي يحرص على التقاليد والعادات الجبلية. وكان يتلاقى مع زمن الرئيس كمال جنبلاط بالروحية نفسها.
وقد ترجم الهدف الأساسي من المصالحة في تأمين استمرارية الجبل ومستقبله، وهدفه لا يمكن أن يتحقق إلا بالتوافق الدرزي – الماروني. مساعي البطريرك صفير التي توّجها بزيارة المختارة، كانت بمثابة تأكيد لثوابت العيش الوطني الذي كلّله جبل لبنان بطوائفه، مع إقليم الخروب الذي يشكل الجناح الغربي لجبل لبنان، والجزء الأساسي من الوحدة الوطنية. فشمولية هذا الوضع الاجتماعي والانساني والجغرافي والأهلي أساس لحلّ أي مشكلة. لذا لم تكن المصالحة عبارة عن مجاملة أو لياقة جبلية، بل انها ربطت بين تاريخ جبل لبنان الدرزي والمسيحي. ولا يغيب عن المشهد أيضاً الدور الذي اضطلعت به مجموعة من رجال الدين المسيحيين المثقفين وشيخ العقل محمد أبو شقرا، في ادارة الأوضاع”.
تجمع الشهادات على تاريخية ذلك اليوم، وكأن الزمن توقّف ساعة انطلق الموكب البطريركي الى المختارة في الثالثة والنصف ليصل بعد ساعة، فيكتب محطة لا بد أن يُجمع على بياض صفحتها كتّاب التاريخ الحديث. أما ما مضى، فللذكرى والعبرة. “التاريخ يتطور، وبكركي ترى ان مصلحة الوفاق الوطني والعيش المشترك هي في هذا النوع من الزيارات. والعلاقة تاريخية بين المختارة وكرسي بيت الدين وبكركي، وهذا بيت البطريرك واهلا وسهلا به”، على قول زعيم المختارة. “إذا كانت قد تلبدت غيوم دكناء في بعض الأحيان، في سماء هذه العلاقات الودية، فيمكننا قول ما تعوَّد بعضنا ان يقول في مثل هذه الحالة: “سامح الله مَن كان السبب”، على قول “البطريرك الخالد”.