كتب مروان حمادة في “النهار”:
رحل السادس والسبعون، كما أراد ورسم بصمت وقور وصاخب في آن.
رحل بطريرك الاستقلال والسيادة والشجاعة والوحدة الوطنية حين عزّ الرجال، وحارس الصمت والألم والعزلة حين قرر الراحة في أديار البطريركية التي أحب.
عرفناه وجاورناه منذ حالك الأيام، وإلتصقنا به فكرا وحكمة وشجاعة، مع إطلاقه، بجرأة القول والفعل، نداء الاستقلال في ٢٠ أيلول ٢٠٠٠، النداء المؤسس لإنتفاضة الإستقلال وللثورة على الظلم والإحتلال وسواد الأيام وصنوفها.
لم يذعن لتهديد أو ويخضع لابتزاز أو يخش سلاحا أو نقاشا.
طاغية كانت كلمته، قاطعة حدّ الذبح بالقطنة، وهو الذي عاش المسيح وفيه: فليكن كلامكم نعم، نعم، لا،لا، ومَا يُزاد على ذلك فهو من الشرير.
سماته الاستقامة والمحبة والتسامح، فكان صفحة ناصعة في تاريخ لبنان الحديث تضرب جذورها في ألفيات لبنان لتزهر شهادة للحرية والحق في زمن القهر والقتل.
كان البطريرك الحويك بطريرك لبنان الكبير، فيما صار البطريرك صفير كبير بطاركة لبنان، بطريرك لبنان العزيز الحر السيد المستقل، التعددي، المنفتح، الأمين على الارض والشعب والمؤسسات، المثلث الحقيقي الذي يناقض كل مثلّث آخر يخنق الدولة ويحكم الطوق على منطق المؤسسات ويشظّي أي أمل في المستقبل.
كنّا حينما نختلف أو نتباين أو نُحبط أو يُسقط في أيدينا، نحتكم اليه، الى صلابته والحكمة، الى ثوابته والمنطق، فنتسلّح بحجّته المتبصّرة وثقابة رأيه.
ظل حتى آخر نضاله، الأصلب بيننا، والأكثر صبرا وصلابة وعنادا في الحق.
هو بنّاء الكنيسة الجامعة والدولة الحازمة والإستقلال الحقّ. هو مانع التقسيم وربيب الديموقراطية والمقاتل في سبيلها يوم إفتقدتْ لبنان.
هو عرّاب المصالحة الكبرى، مضمّد الجراح الوطنية ومبلسمها.
عندما أخذ بيدي في كفرحيم عند بوابة الشوف لنبدأ الرحلة التي أوصلتنا الى مختارة وليد جنبلاط عبر دير القمر، شعرتُ أن مهمته الكبيرة قد توجها بالمصالحة التاريخية التي أعادت لبنان إلى وحدته الحقيقية، وحصنت قلبه الجبلي في وجه كل محاولات الوصاية والجهاز الأمني آنذاك، ومسبقا في وجه متطفلي اليوم وساكبي دموع التماسيح.
أيّد اتفاق الطائف بكل قواه، وقاوم سوء تطبيقه والاحتلالات، وأظنه غادرنا وفي قلبه غصّة من احتمال احتلال رابع.
هو السادس والسبعون، تاج مسيرة بطريركية بنتْ التاريخ والكثير من مستقبلنا، يوم تلكأ حاكم أو جار غازٍ أو محتلٌّ.
نودّعه اليوم، ونوْدِعُه غدا وكل يوم، ذاكرة من عاصره ومن عاش زمنه وفكره. عمود من إعصار، من كلمة. عظاته الأسبوعية في الذاكرة والوجدان. كلمات قليلة في السياسة ينهي بها كانت كفيلة في إطلاق رأي عام ونقاش وحوار وتبصّر ومن ثم مسيرة ثورة، فيما كان الغازي تزيده خوفا ورعبا وتوجسا، حتى حلّت لحظة التحرير والتحرر.
اليوم يُفتقد الحلم والنبض والعصب، الذي به على مدى ٣ عقود، ومن ثمّ بشفاعته حيث هو الآن، أُعطي لنا أن نبقى في لبنان ونحيى من أجله.
رحل السادس والسبعون؟ بل زَحَل آخر أزمنة لبنان الصلابة والسيادة والإستقلال.