كتبت هالة حمصي في جريدة “النهار”:
صخرة هو، نصرالله، فلذة من كبد لبنان، تاريخ وطن وأمة وكنيسة. بطريرك مستحق مستحق مستحق. كبير، جبلة من تراب وادي القديسين، ارض الموارنة. اي كلام على البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لا يتسع له القرن كله الذي عاشه وكتب بمواقفه فصولا من التاريخ. كان الامين على العهد، على لبنان، القوي، الغيور، الصبور، الواسع كالبحر الذي تمدد تحت كتف بكركي.
مئة سنة في صدره، تغلي فيه، تركض كنهر هادئ، على مهل، وتحفر وراءها تاريخا ليس هيّنا. البطريرك صفير (مواليد 15 ايار 1920)
يغمض عينيه، بعدما تعب صدره وثقلت رئتاه، تلك الرئتان اللتان حمل فيهما لبنان وهمومه وهموم الكنيسة والموارنة عقودا. الراهب المتواضع، الماهر، قاوم حتى النهاية. وكان يصلي. صلّى، كما اعتاد فعله طوال اعوامه المئة سنة الا سنة، معتصما بالله.
الذاكرة
الله… قلب نصرالله هتف له باكرا، وقادته الطريق الى الدير. ابن ريفون الذي ترقى بخطى ثابتة في المناصب الكهنوتية، أصبح البطريرك الماروني السادس والسبعين في 19 نيسان 1986، خلفًا للبطريرك انطون بطرس خريش. عارفوه من المطارنة يتكلمون على راهب هادئ، رزين. صاحب شخصية ثابتة ومتحفظة. متواضع، مثقف، معلِّم الاجيال، محب للكلمة والعلم، مفكر، متكلم فصيح، مدون للتاريخ والاحداث، ذاكرة بكركي الغنية.
وفوق كل هذا، كان لاهوتيا عميقا، عكست عظاته ايمانا مسيحيا صلبا، متجذرا في الصميم. الصوت محبب ايضا، مهذب. لا يستفز، ولا يتعالى، ولا يتباهى. كأنه آت من ظل دافئ. الوجه مبتسم عند استقبال الناس. كان نصرالله يحسن الاستماع، ويتمهل في اختيار الكلمات.
هواجس كثيرة، وشكاوى أكثر. كانت ايام حرب ودمار ورعب عندما جلس على كرسي انطاكية وسائر المشرق للموارنة. “ناسك في ديره”، مصلٍّ. طوال ربع قرن، قاد الكنيسة المارونية بجرأة وحزم، في السراء والضراء. في حقيقة الامر، كشف هذا الراهب الوقور معدنه في احلك الظروف. ومعدنه كان ذهبا نقيا.
المقاوم، النبيل
كان “وطنيا بامتياز، رجل الكرامة والحق”، على ما يكتب عنه عارفوه، ولم يحد عن اقتناعاته، رغم كل الضغوط والتهديدات. الشهادات فيه ترسم رجلا صاحب رؤيا و”نظرة ثاقبة وكلمات قليلة وظرف حاضر”. “كان يعرف ما يريد، ويعمل بصمت ليصل الى الهدف الذي وضعه نصب عينيه”. صخرة عنيدة جلست على كرسي بكركي، وأخافت اعداء لبنان.
“سيدنا” ابى الوقوف على الحياد، لان الوضع كان يستحق مواقف صريحة، جريئة، لا لبس فيها. البطريرك “المقاوم”، “بطريرك الحرية”، على ما يصفه بعضهم. ابواب بكركي انفتحت امام كل من كان لديه مطلب أو شكوى، ايا تكن الطائفة او الانتماء. هذا ما اراده غبطته، ان “يبقى الكرسي البطريركي بيت الموارنة وجميع اللبنانيين”.
ضمير لبنان حكى. طوال عهد الوصاية السورية، بقيت عظاته تنذر، تطالب باستقلال لبنان وحريته وسيادته وتلح عليها. ولم يلن، ورفض ان يذعن لفكرة او اقتراح من شأنهما ان يغيرا موقفه في ذلك الزمن الخطير. عنيد هو. واذا صمت، ففي صمته موقف يحسب له حساب.
عندما احتاج لبنان المنقسم الى مبادرات انقاذية ملحة، دعا الافرقاء المتخاصمين الى بكركي (شباط- نيسان 1989)، وجمعهم وحضهم، مذكرا بالثوابت اللبنانية، متمسكا بها. من الذكريات المخزية في تلك المرحلة، ما تعرض له يومذاك من اعتداء ومهانة على يد شباب من انصار الجنرال ميشال عون، بعدما اقتحموا باحات الصرح البطريركي، وحطموا وكسّروا واهانوا.
يومذاك فضّل المغادرة الى الديمان. “كان حزينا ومجروحا في العمق”، على ما يروي احد عارفيه المقربين. قال له: “مؤلم ان تأتيك الطعنة من ابنائك وممن تحب… هو جرح لن يطول الوقت قبل ان يندمل… وانا اسامح واغفر باسم ابي الذي في السماوات. غير ان الحزن حفر عميقا فيّ وسيطول”.
سيدنا سامح. كان الراعي الطيب، الهامة الوطنية التي لم تتغير مع تغير الزمن. عندما حان وقت السلم، مد يده للمصافحة والتقارب، وفتح صفحات جديدة: دعم اتفاق الطائف عام 1989، باعتباره وثيقة الوفاق الوطني التي اجمع عليها اللبنانيون. شارك في تأسيس اللجنة الوطنية الاسلامية المسيحية للحوار عام 1993. طالب باطلاق “ولدنا” الدكتور سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية، وساند قضيته، وقضايا ابناء آخرين مظلومين.
كذلك، مهدت مواقفه الداعمة للحريات وسيادة الوطن لنداء المطارنة الموارنة الشهير في ايلول 2000. رعى لقاء قرنة شهوان يومذاك، وبارك ضمنا لقاء بريستول الذي ضم شخصيات سياسية وحزبية من طوائف مختلفة. وفي آب 2001، اجرى مصالحة الجبل التاريخية. محطة لامعة، وصافح بطريرك “الاستقلال” زعيم الجبل وليد جنبلاط “الشجاع”.
من بكركي الى العالم
من تلال بكركي، تعالى الصوت الهادىء، منبها، مرشدا، موجها، مطالبا طوال 25 سنة. “لو يلتزم جميع اللبنانيين خط الوطن، ويضحّون حتى بالنفس في سبيل عزته وكرامته”. توصية البطريرك هي هي، الامس واليوم وغدا (عظة الاحد، “النهار”، 1/9/1997). كل احد، انتظره لبنان، كله. “ادعوكم الى حمل قضية الوطن، وهي لا تقل اهمية عن سواها من القضايا العادلة التي تستأهل تحمل المشقات والتضحيات لاعلاء شأنها، واتخاذ كل الوسائل الممكنة والمشروعة لربحه. ولن يربحها الا العاملون في سبيلها والمضحون لأجلها”.
في الزمن الصعب، كانت توجيهات سيد بكركي تدل على الطريق، تحسم الخيارات. “لا تضعوا نصب عيونكم الا مستقبلكم في وطنكم، ولا تصغوا الا لداعي الضمير المستقيم دونما نظر الى ما يقوله هؤلاء واؤلئك من داخل لبنان وخارجه من كلام معسول ووعود خلابة” (بكركي، 31 ايار 2009، الاستحقاق الانتخابي).
شهادة اخرى للتاريخ من تلك الحقبة. “اننا اليوم امام تهديد للكيان اللبناني ولهويتنا العربية. وهذا خطر يجب التنبه اليه. ولهذا فإن الواجب يقضي علينا ان نكون واعين لما يدبر لنا من مكائد، ونحبط المساعي الحثيثة التي ستغيّر، اذا نجحت، وجه بلدنا” (6 حزيران 2009).
غيض من فيض المواقف الوطنية لسيدنا.
نعم، من وطنية جريئة، مقتنعة، مصرّة، من ايمان واضح وقوي، مدّ البلد بالهواء والامل وروح النضال. وراء اسوار بكركي، كان نصرالله الحلقة الأقوى في الكيان اللبناني، والتي لم يستطع شيء او احد ان يكسرها او يخرقها او يغيّرها او يحولها. النفس أصيل، مجبول ببسالة نساك وادي قنوبين.
لعارفيه، هناك كان يحلو له ان يمشي ساعات، مصغيا الى همس الصوامع والايقونات، مشتاقا الى آباء موارنة سكنوا الوديان، الى مطارحهم. وكل مرة، كان يعود من رحلاته بوجنتين تألقتا بالنور. “سيدنا” عرف السر وحفظه في قلبه. والجبين حمل البشرى. تلك الارض التي أحب، من وحيها استلهم، وتكلم، ووعظ، وكتب.
البطريرك صفير كتب كثيرا. هذا “الرياضي” صاحب “الروح الرياضة”، “العفوي”، والذي احب ان يمشي ايضا في احراج بكركي، واظب على تدوين الاحداث وتفاصيل اللقاءات والوجوه كل يوم. مدوناته امتلأت بصفحات تشهد للاجيال المقبلة، وتخبر التاريخ. عند سيدنا الخبر اليقين. حافظ الاسرار كان. والصمت حليفه، وكم ارتاح اليه. كل عمره، عاش بصمت الرهبنة وزهد النساك. ولم يملّ.
كان في الحادية والتسعين، عندما اختار ان ينسحب بداعي التقدم بالعمر. في 25 آذار 2011، سلّم الامانة الى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، بعدما تقدم باستقالته. وانصرف بهدوئه المعهود، بصمت ومهابة، إلى التأمّل والصلاة، الى قراءة مزيد من كتب القديسين. وبقي المحبوب، العزيز على القلب، المحترم.
99 عاما، وعَبر الى المئة. قرن في رجل كان له ﻣجد ﻟﺒﻨﺎﻥ، واستحقه. “كبير الموارنة وعميد أحبارهم وعنوان فخرهم ورمزهم الوطني” يستريح بعد جهاد طويل. تلة بكركي العزيزة تبكيه، تفتقده. ولبنان يحزن لغياب كبير من كباره.
“لقد جاد علي الله بأن اقضي في السدة البطريركية خمساً وعشرين سنة، بذلت خلالها ما باستطاعتي لأقوم بالمهمة التي القيت على عاتقي. وهي مهمة ليست باليسيرة في ايام صعبة مر فيها وطننا لبنان بمراحل عسيرة، فأضفت من البناء ما اضفت. ولا حاجة الى العودة اليه وتعداده، وهو ظاهر للعيان، وكان التعاون بين اهل الحكم وعلى رأسهم فخامة رئيس الجمهورية، وبيننا ما كان يجب ان يكون” (بكركي، 6 آذار 2012).
الجبل الكبير يصمت، يغرق في سكونه. غبطة البطريرك، تحية اجلال لك.