Site icon IMLebanon

البطريرك المناضل

كتب خليل الخوري في صحيفة “الشرق”:

يحار المراقب من أين يبدأ في التعامل مع مسيرة البطريرك الكبير الكاردينال مار بطرس نصر الله صفير الذي غادرنا أمس تاركاً لوعة كبيرة ليس لدى الطائفة المارونية وحسب إنما لدى اللبنانيين جميعاً بدليل الإقبال على نعيه من الرئيس العماد ميشال عون الى سائر أركان الدولة، واللافت أن القيادات السياسية والروحية الإسلامية شاركت في النعي. وهي ظاهرة لافتة أن يترك رجلٌ عشية بلوغه المئة عام من العمر، هذا القدر من اللوعة والأسى!

البطريرك الكبير الراحل أدّى الدور (الذي من أجله كانت بكركي) بإمتياز ودقة وبداهة وشجاعة ووطنية وصدق، وأثبت أنه كان، فعلاً، الرجل الرجل في الملمات والمراحل الحرجة، بل الأكثر حراجة في الحقبة الزمنية التي «اُعطي مجد لبنان» بطريركياً مارونياً لأنطاكية وسائر المشرق.

يمكن التحدث عن مراحل نضال هذا البطريرك الألمعي، اللاهوتي، الإنساني، الشجاع، المجابه في سبيل وطنه والحق.

وفي تقديرنا أن نداء بكركي (2000) شكّل نقطة الفصل وكان البداية الفعلية، بل بداية العدّ العكسي، لإنهاء الوصاية السورية على لبنان المغطاة عربياً ودولياً. هذه النهاية التي استعجلها استشهاد الرئيس المرحوم رفيق الحريري.

كان المثلث الرحمات نصر الله صفير رجل الموقف والصلابة والقوة والإيمان، وكان رجل المصالحة بإمتياز فما حققه في زيارته التاريخية الى الجبل (3 آب 2001) كان بمثابة المعجزة التي ختمت جرحاً عميقاً  يعود الى القرن التاسع عشر (1848  وخصوصاً 1860) وليس فقط في الحرب الملعونة التي ضربت لبنان ابتداءً من أواسط سبعينات  القرن  العشرين الماضي.

وكان الكاردينال صفير رجل التواضع، والقائد الميثاقي المؤمن بأن لبنان هو لأبنائه جميعاً… وكان في آنٍ معاً رجل التعلق بالأرض، ورجل المعاناة الكبرى في سبيل الحرية والسيادة والاستقلال… وهو الذي كان يقول  في مناسبة عيد الاستقلال زمن الوصاية: «سنظل نعيّد الاستقلال ولو منقوصاً حتى يتم كاملاً ناجزاً نهائياً. ولم يفقد ثقته بلبنان لحظة واحدة. فكثيراً ما كان يردد أمام اشتداد المحنة: لقد عانى أجدادنا والآباء مِحَناً أكبر وتجاوزوها ونحن سنتجاوز هذه المرحلة.

كان يشهد للبنان دائماً وأبداً لبنان الواحد الموحّد السيّد الحر المستقل، وطالما قال وردّّد القول: لبنان له ماضٍ وله تاريخ وله حاضر وله مستقبل.

وهو رفض زيارة سوريا، حتى مجرّد  زيارة رعائية لإبقائه هناك، لأنه كما كان يقول: «لا أريد أن أعطي صكّ براءة للذين أساءوا إلى لبنان».

وبعد، أيها الراحل الباقي، يا سيدّنا البطريرك نصر الله صفير من حسن حظي أنني عاصرتك، وأنني حظيت بلقاءات عديدة معك، فعرفتك عن قرب، وتعلمت منك الكثير، وقدّرت المزايا الكثيرة التي اكتنزت بها شخصيتك  العظيمة….

وكنت أتساءل: كيف لهذا الجسم النحيل أن يحمل الهموم الوطنية الهائلة؟!

«قلنا ما قلناه» كنت تردد. وبالفعل قلت كلمتك ولم تمشِ، بل كنت تتابع، وتسهر، وتحرص، وتجد وتناضل.

وها هو الرحيل يطرق باب بكركي… فترحل لتبقى في أنصع صفحات التاريخ رجل الإيمان والحرية والسيادة والاستقلال.