كتب نصري الصايغ في “الاخبار”:
من معه؟ كثيرون.
من عليه؟ كثيرون أيضاً.
لذا، تصعب الموضوعية. البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، ليس جملة كلامية، ولا هو نص محايد، ولا هو رأي أكيد.
لا أحد ينكر حضوره الوازن، في السياسة. عاصر قسماً من الحرب الأهلية، وكاد يكون ضحيتها. انقسم حوله وضده الموارنة المتحاربون. ظنوا أنه سيتغير. لم يُبدل. ظل متصلاً بالمشروع الماروني للبنان، بصيغته القديمة، مع تعديلات طفيفة، في صناعة القرار. لم تكن مساهمته ناجعة. ظلت الحرب أقوى من بكركي.
تعب المتحاربون جميعاً. الموارنة تخندقوا داخل الكانتون العسكري، وطالبوه بالحسم والحل. لا حلول ممكنة بواسطة السلاح وحده. فجلس ينتظر الحلول. لا بد لكل حل أن يحظى ببركته ومعموديته.
في ذلك الزمن المأزوم، لم تتوقف الأوراق السياسية بينه وبين مرجعيات دينية وسياسية غير متخندقة. كانت إرهاصات الطائف تجد منفذاً لها، بأوراق يجري تداولها، لرسم صورة لبنان ما بعد الحرب. لاقاه من الجانب الآخر، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. اقتربت وجهات النظر، لكن البطريرك ظل مصراً على الامتيازات المارونية في السلطة. آخر معاقلها، رئاسة للجمهورية بلا أظفار.
وتغير لبنان. خسر الموارنة الحرب ومكاسبها في زمن الطائف. «الجنرال» في المنفى، «الحكيم» في السجن، الرئيس الأسبق مطرود إلى فرنسا. فرغت الساحة من القادة. بات البطريرك هو المرجع الديني والسياسي الوحيد. يعيش في شبه عزلة. إلا أنه، كما قال فيه أعوانه، الصخرة. اشتكوا منه. قالوا فيه: إنه لا يتقدم خطوة إلى الأمام. قال آخرون: «صح. إنه لا يتقدم، ولكنه لا يتراجع ولا يتزحزح». ولقد كان ذلك صحيحاً جداً. العناد والصمت والثبات، من صفاته الناطقة.
عايش الحقبة السورية على مضض يومي. كانت الخطوات باتجاهه، بروتوكولية. السياسة لا تزوره. لا يطلب رأيه في أمر هامّ، أو لا يؤخذ برأيه إن بادر. هو خائف على صورة لبنان. لبنان باقٍ، ولكن ما هي سحنته. كانت الصفة اللبنانية النقية تعوزه. لبنان، ذلك الزمن، لم يكن لبنانه. إنه كيان مطيع للأوامر الصادرة من دمشق. لذا، لم يقم بزيارة دمشق، ولا فكّر في ذلك. صبر وانتظر، فيما كان لبنان يشهد صعود السُّنية السياسية القوية، وصعود المقاومة الإسلامية الشيعية «السوبر قوية»، فيما بنادق الموارنة غابت، وما عادت اللغة السياسية تلحظ معلماً من معالم المارونية الأصلية. النسخ السياسية للمارونية في الزمن السوري، كانت باهتة، لا لون لها. تتلون بلون الوعاء الذي أُعدّ لها. موارنة بلا قدرة ولا قوة تأثير. كادوا أن يصبحوا أقلية بين الأقليات. ولقد كانت بكركي تعضّ على الجرح ولا تلين، بانتظار غودو. لكن غودو جاء بعد مقتل الحريري.
قبل ذلك بسنوات، كانت المقاومة قد أنجزت تحريراً للجنوب والبقاع، كان إنجازاً إعجازياً طبع لبنان بميزة لا تحوزه أية دولة عربية. خروج «إسرائيل» بلا قيد ولا شرط. صارت بيروت عاصمة المقاومة والجنوب ميدانها…
استقبلت المارونية السياسية هذا الحدث بالقول: شكراً أيتها المقاومة. استريحي بعد الآن. هاتي سلاحك. إنها الفرصة الذهبية للضغط على المقاومة ومن معها، بهدف تعديل موازين القوى في الداخل. هكذا ولد البيان الأول بعد التحرير، ثم ولدت قيادة في قرنة شهوان، الصوت الصارخ المسيحي المُطالب بسحب السلاح واستقلال لبنان عن سوريا.
تصعب الموضوعية. البطريرك مار نصر الله بطرس صفير ليس جملة كلامية، ولا هو نص محايد، ولا هو رأي أكيد
حقق البطريرك صفير إنجازاً كبيراً في حياته. لقد شهد بعد اغتيال الحريري، انسحاب الجيش السوري، وسط موجة غضب عارم، واجهتها موجة «شكراً سوريا». وكان ما كان: تيار الثامن من آذار في مواجهة تيار الرابع عشر من آذار. اهتزّ الكيان. تبدلت التحالفات. بدا وكأن لبنان الجديد آتٍ هذه المرة، بصيغة استقلالية حاسمة، لا جدال في انتمائه إلى ذاته، وليس لأي قوة خارجية. ولقد كان ذلك وهماً من الأوهام المارونية. فقوة المقاومة كان لها القول الفصل في إثبات صيغة لبنان المقاوم أولاً.
لم تنفع البطريرك صفير المصالحة المارونية – الدرزية في الجبل. تعرضت لاضطهاد كبير. الأجهزة الأمنية أفلتت قواتها على جيل من الشباب سيتحدى السلطة. السلطة البوليسية تراجعت. لم يعد ممكناً أن يُحكم لبنان كما كان، ولا كما سيكون، لأن المستقبل مجهول.
وتطول الحكاية، والبطريرك لا يتزحزح أبداً. وقف إلى جانب الرابع عشر من آذار. صار محجة إلزامية لإنتاج المواقف التي تتفق مع هجمة القرارات الدولية على لبنان، بهدف إضعاف المقاومة ومحاصرتها. وكان للبطريرك حكمة الصمود في الخطوط الخلفية، ليُتيح للسياسيين الموارنة أن يتقدموا لتسلّم زمام المبادرة.
خاب ظنّ البطريرك. انتقلت المشكلة اللبنانية إلى الدوحة. سقط لبنان في اللاجدوى. لا قوة أقوى من الثانية. كل فريق بحاجة إلى الفريق المنافس. تلك هي صيغة لبنان.
لا شك في أن دور البطريرك صفير كان مميزاً في هذه المعارك. لم ينكسر ولم ينتصر. ظل كما كان. ثابتاً في موقعه، حتى قيل عنه، إنه الصخرة.
ترك البطريرك الكرسي، وترك لبنان في أسوأ حال. يدلّ على ذلك ما وصل إليه الكيان من إفلاس وحطام وانعدام. لبنان البطريرك صفير لم يرَ النور.