Site icon IMLebanon

مار نصر الله بطرس صفير.. كرَّم الله وجهَك

كتب مصطفى علوش في صحيفة “الجمهورية”:

«دخلت على تاريخنا ذات ليلة      فرائحة التاريخ مسك وعنبر

وكنت فكانت في الحقول سنابل     وكانت عصافير وكان صنوبر

لمست أمانينا فصارت جداولا      وأمطرتنا حبا وما زلت تمطر»   (نزار قباني)

«في البدء كان الكلمة»، وفي النص اليوناني لإنجيل يوحنا يقول «في البدء كان اللوغوس» وهي لفظة يونانية قديمة عنى بها من أطلقها وهو الفيلسوف الكبير «هرقليطس» بأنه النار الأزلية التي تنير الضمائر وتدفع البشر النيام على جهلهم ليستفيقوا ويحكموا عقوله في شؤونهم. ليس هناك أكثر أهمية من الكلمة العاقلة المسنيرة باللوغوس في أحداث التغيير، فبالكلمة تبدأ الحكاية وبالكلمة تصنع الأفكار وبالأفكار تنسج الحرية والحرية تصنع العجائب.

كان والدي يحلم بيوم الحرية، وكان يقول إن مناه هو اليوم الذي يشهد فيه خروج آخر جندي سوري من لبنان. ووالدي لم يمكن يوماً إلا عروبياً يحلم بوحدة العرب، ولكنه كان يكره الاستبداد، وعانى كما عانى كل اللبنانيين ظلم أجهزة القمع ومواقع المخابرات المعروفة التي نصبتها سلطة الوصاية لمراقبة وخنق كل نفس حر كان يحلم به اللبنانيون.

والدي كان يواظب على الاستماع لموعظة غبطة البطريرك نصرالله بطرس صفير كل، أحد وكان يقول لي: «اسمع يا ابني، إذا أردنا أن نتحرر يوماً فما علينا إلا سماع كلمات «البطرك» فهو يرسم لنا طريق الحرية». لم يعش والدي ليرى وعد الحرية يتحقق على يد مئات الآلاف من اللبنانيين الذين مشوا على صدى كلمات البطريرك، فكان لهم ما أرادوا وتمنوا على مدى ثلاثين سنة يوم اجتمعوا مسلمين ومسيحيين يرددون مقاطع من عظات غبطته ملخصها: سيادة حرية استقلال حقيقة وعدالة.

خلال الانتداب الفرنسي على لبنان، وبمسعى من المثلث الرحمات البطريرك الياس الحويك، أعلنت دولة لبنان الكبير بعد ضم أقاليم الى ما كان يعرف بإمارة جبل لبنان. لا نعلم اليوم ما كان يجول بخاطر البطريرك وقتها فدفعه الى وضع مسيحيي الجبل، ومعظمهم من الموارنة، تحت رحمة التبدلات الديموغرافية غير المحسوبة، بدل البقاء في دويلة صافية مذهبياً، فضم أقاليم ذات أكثرية ساحقة من المسلمين (مع وجود فيها لمجموعات متفرقة من الموارنة).

قد يكون في سجلات الكنيسة المارونية مدونات عن مسوغات هذا القرار وقد لا يكون، ولكن، وبالنتيجة، فقد أصبح لبنان مشروعاً لمغامرة حضارية ونموذجاً لا مثيل له في العالم.

وقد يكون البطريرك هدف من وراء كل ذلك الى الإثبات بأن المحبة قادرة على تخطي الاختلاف، لأن الطبيعة البشرية قادرة على التسامح وتفهم الآخر متى أعطيناها الفرصة لمعرفة الآخر المختلف، هذا لأن التعصب والعدائية ضد الغير المختلف أساسها الجهل والإحجام عن معرفة الآخر.

وهذا هو بالذات جوهر الإرشاد الرسولي بخصوص لبنان الذي ساهم بوضع أسسه غبطة البطريرك صفير. لقد فهم غبطته منطق الوصاية المبني على فلسفة الاستعمار القديم الذي يقول «فرق تسد»، لذلك فقد استمرت التفرقة والفتنة سلاحاً في يد المحتلين لاستمرار وصايتهم على لبنان لدرجة أن بعض دعاتهم كانوا يروّجون بأن منطق تحالف الأقليات في الشرق هو السبيل للحماية من الأكثرية، وبأن حماية المسيحيين في لبنان بالذات مرهونة لاستمرار الوصاية السورية في ظل المنطق الأقلوي. لقد رفض البطريرك هذا المنطق جملة وتفصيلاً، مؤكداً على أن الحرية هي التي دفعت الموارنة للهجرة الى لبنان.

لذلك فإن الحرية وحدها هي السبيل للمحافظة على وجودهم في لبنان وفي المشرق بأجمعه. وعلم بأن السبيل الوحيد الى الحرية هو في قطع دابر الفتن المخطط لها بشكل دقيق لاستمرار الوصاية.

لذلك، فقد دعا مبكراً الى الالتزام بمبادئ المواطنية والتفاهم مع المسلمين، ولم ترهبه مظاهرات حاملي السواطير من أتباع أجهزة المخابرات الذين حاولوا إشهار سلاح الفتنة، لأنه كان يعلم أن أغلبية مسلمي لبنان الساحقة لها الآمال نفسها لأغلبية المسيحيين، وهي الحياة الحرة والكريمة في ظل وطن يجمع الكل تحت رايته.

لقد نجح اللبنانيون في تخطي هواجسهم الطائفية، ولو لفترة وجيزة في تاريخهم، يوم اجتمعوا لأول مرة تحت شعارات وطنية واحدة في 14 آذار، ولم يكن ذلك ممكناً لولا الكلمة الحكيمة التي كان يطلقها غبطة البطريرك نصرالله بطرس صفير. اليوم فارقنا مثلث الرحمات البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وقد كرم الله وجهه بأن عفاه من ذل تولية وجهه نحو الأوثان والأصنام، هؤلاء الذين نكلوا بكل ما حلم به غبطته في حياتهم هؤلاء الذين زرعوا الموت والدمار والبراميل المتفجرة، ومن سمموا الهواء بالغاز القاتل، ومن استدرجوا رعاع الأرض وحثالتها من حشد وداعش ليفسدوا في البلاد والعباد.

كرم الله وجهه لأنه لم يدخل في تجربة الخضوع والذهاب إلى دمشق تحت نير الإحتلال، ورفض كل الإغراءات التافهة بأمجاد السلطة الفانية، ولم يرهبه بالمقابل غوغاء من هاجموه في صرحه يوم آثر الذهاب إلى السلم الأهلي بدل الأوهام الإنتحارية والحرب العبثية ورايات النصر الفارغة، يطلقها قائد موهوم بآفة العظمة الذاتية.

سيدنا أنا قد يكون من المثير للشفقة بنا إن دعونا لك بالرحمة، فأنت موكل بطلب الرحمة لنا من حيث ستكون حتما إلى جوار القديسين، لكننا سنفتقد وجودك بيننا، وستبقى ذكراك في كل يوم نستذكر أبطال استقلالنا.