كتب جورج حايك في صحيفة “الجمهورية”:
شارك البطريرك الماروني الكاردينال الراحل مار نصرالله بطرس صفير في صنع التاريخ المعاصر في أكثر من مرحلة من مراحل التحوّلات المصيريّة والمفارق الأساسيّة. وكان له الدور الأبرز في رسم الحدود السياسيّة والجغرافيّة للكيان اللبناني الحالي بين عامي 1986 و2011.
مع البطريرك صفير، لم تفقد البطريركيّة المارونيّة دورها الرائد، وإن حاول البعضُ التطاول عليها مجرِّحاً ومنتقصاً من إيمانها بالمواقف التي تعلنها. ولا يختلف اثنان على أنّ صفير شكّل بشخصه وثباته قيمةً كبيرة للوجود المسيحي في الشرق. فكان يتكلّم بحرّية ضمير وصراحة بعيداً من أيّ مصلحة، مطالباً على نحو دائم، وفي أحلك الظروف، بسيادة لبنان وحريّته واستقلاله.
وكانت العظة التي يلقيها في قداس الأحد في كنيسة المقر البطريركي في بكركي، محطّ ترقّب وانتظار. ماذا قال البطريرك اليوم؟ ماذا فعل؟ من استقبل؟ هل سمعت تصريحه؟ لم يسبق أن توجّهت الأنظار إلى بكركي بهذا الشكل، على الأقل، منذ الاستقلال.
والسبب أنّ الصرح كان يقيم فيه بطريركٌ تاريخي، يقتحم، بيده وعصاه وإيمانه، الحياة اليوميّة. ينتقد، يعرض، يحاور. ثابت، مبدئي، جريء، هادئ. مواقفه لا لبس فيها ولا مناورة. لاؤه لا، نعمه نعم، همّه حماية التعايش، صون الميثاق الوطني، والدفاع عن الوجود المسيحي الحرّ في لبنان.
من انتخابه بطريركاً عام 1986، وحتى قبول الفاتيكان استقالته عام 2011، وعى حجم المسؤوليات الملقاة عليه، وصليب مسيحيي الشرق الذي كان يحمله.
كان يقول كل شيء بإحترام لأنه يحترم ذاته ومقام البطريركيّة، وكان دائماً يطالب بالحقّ من دون أن يتهجّم على أحد أو أن يجرح أو يخدش كرامة أحد.
البعض كان يضع البطريرك في حساباته وكأنه الخصم، وهذا غير صحيح. فهو كان أباً للجميع، الّا انّ الساحة السياسيّة كانت تضمّ أطرافاً مسيحيين عدة غير متّفقين على استراتيجيّة الوجود المسيحي في لبنان، وكل طرف أو حزب مسيحي كانت له نظرته في هذه الاستراتيجيّة، ما كان ينعكس نزاعاً بين الأحزاب والتيارات المسيحيّة. أما البطريرك صفير فبقي متمسّكاً بمواقفه الوطنيّة الثابتة التي لا تتبدّل ولا تتقلّب كما المواقف السياسيّة.
لم يغيّر في خطابه من العام 1986 حتى العام 2011، ولم يحاول استمالة أحد أو استبعاد أحد. وليس مجاملة أو دفاعاً عن البطريرك، إنما انطلاقاً من مواقف موثّقة في أرشيف البطريرك صفير الذي كان ربما في وقت من الأوقات المرجعيّة المسيحيّة الوطنيّة الوحيدة في البلد.
حين كان العماد ميشال عون في المنفى والدكتور سمير جعجع في السجن والرئيس أمين الجميل والعميد ريمون إده في الخارج، خلت الساحة المسيحيّة من زعمائها، فبقي البطريرك صفير ثابتاً في موقفه من الحفاظ على الوجود المسيحي وكرامة المسيحيين وحقوقهم، فاستقطب الوهج السياسي واستقطبت معه بكركي المسؤولين الدوليين الكبار، وفي ذلك دلالة الى قيمة هذا الرجل، ليس فقط الوطنيّة، وإنما الدوليّة أيضاً، لأنّ مقام البطريركيّة كان دائماً السند الأول لجميع اللبنانيين.
«مجد لبنان أعطي له». كان يبرهن هذا الشعار في عمل يومي متواصل، حاملاً على منكبيه بصلابة الأب العادل والراعي الصالح، شؤون أبنائه وشجون طائفته وهموم وطنه الذي أُعطي مجده.
إذا كان البطريرك الياس حويك قد أخرج لبنان من مطامع الامير فيصل في مؤتمر فرساي عام 1919، والبطريرك بولس المعوشي الرئيس اللواء فؤاد شهاب من معركة التجديد في حديقة البيت الابيض عام 1961، فإنّ البطريرك مار نصرالله بطرس صفير أخرج الجيش السوري بعد إخراج الجيش الاسرائيلي عام 2000، وظل يطرق بعصاه حتى افتُدي هذا الخروج باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه عام 2005!
هذا البطريرك الذي لا يملك سلاحاً، الّا سلاح الموقف بالحق والمجاهرة بالكلمة أنجز مشروع الاستقلال الثاني المصطبغ بدماء قافلة من شهداء الرأي والقلم سواء في سدّة المسؤولية او خارجها!
هذا البطريرك الذي حمل صليب النزاع الماروني على السلطة عام 1988 لم يقوَ على وضع حدّ لإراقة الدماء، الّا بعدما وضع لبنان في عهدة «اتفاق الطائف» عام 1989 مكرّساً بداية السلم الاهلي الذي ظلت سوريا مسؤولة عنه حتى خروجها الإكراهي عام 2005 تحت ارادة شعبية عارمة ضاغطة.
هذا البطريرك الذي استطاع بفضل ثباته وعناده أن يثبّت ركائز العيش المشترك بين اللبنانيين جميعاً، مهما تباينت مواقفهم. ونجح في سينودوس 1994 وسينودوس عام 2010 أن يجوهر معنى هذا العيش في وثيقة الارشاد الرسولي الذي أطلقه البابا يوحنا بولس الثاني في حريصا عام 1997 بدعوة من رأس الكنيسة المارونية.
هذا البطريرك الاستثنائي الذي عبر طريقه المحفوف بالاشواك المدمية، حقق ما لم يحققه أيُّ مدفع او سلاح لإيمانه بأنّ هناك رباً يرعى لبنان بعنايته وقديسيه، اذ يكفي في عهده أن يشهد لبنان تطويب أكبر عدد من رعيل القداسة في الكنيسة المارونية.
لا ينتظر البطريرك من عليائه أن نكيل له المديح، فقد اعتاده، ولم يتأثر سواء بالمقرّبين وكلامهم الممجوج أحياناً، او بالبعيدين الذين يوجّهون له التهم بالإنحياز وصولاً الى الحقد.
لكن كلمة حقّ تُقال: كان البطريرك مار نصرالله بطرس صفير «صخرة البطاركة»، وعلى هذه الصخرة تفتت المؤامرات، لذلك يقولها الجميع وبلا حرج: إنه رجل عظيم مضى إلى رحاب التاريخ، حيث مكانته ومكانه الحقيقي.