كتب يوسف دياب في صحيفة “الشرق الأوسط”:
تقف الحكومة اللبنانية أمام خيارين، أحلاهما مرّ؛ الأول إقرار إصلاحات مالية واقتصادية تخفّض العجز في الموازنة، وتحدّ من تنامي الدين العام، لكنها تواجه بنقمة شعبية واسعة جراء الضرائب الجديدة التي ستفرضها، واقتطاع نسبة من رواتب موظفي القطاع العام. والثاني محاذير التفريط بمقررات مؤتمر «سيدر» الذي وعد بإطلاق ورشة مشاريع للبنى التحتية والاستثمارات تقدّر بـ11.8 مليار دولار، شرط تطبيق الإصلاحات المطلوبة؛ وأولها خفض العجز، وزيادة إيرادات الخزينة، ومحاربة الفساد.
ويبدو أن الحكومة عازمة على السير بالإصلاحات، رغم تعاظم النقمة الشعبية وحركة الاحتجاجات والإضرابات المتصاعدة على الأرض، باعتبار أن أي تفريط بمكتسبات «سيدر» يعني فقدان الثقة الدولية بلبنان، ودخول البلاد تدريجاً نفق الانهيار، وهو ما تتفق القوى السياسية ضمناً على تجنّبه، سواء داخل الحكومة أو خارجها، وعلى المضي بإقرار موازنة تقشفية أياً كانت الانعكاسات على الأرض.
وتتحسّب الحكومة بكلّ مكوناتها من ردّ الفعل على الأرض رفضاً لأي موازنة تطال جزءاً من رواتب موظفي القطاع العام، لكنها مضطرة إلى تجرّع هذه الكأس. ورأى عضو «كتلة المستقبل» النائب محمد الحجار، أن «المصلحة الوطنية تقضي بأن يصار إلى خفض العجز في موازنة الدولة، لأنه السبيل الأوحد لتمكين الاقتصاد من النهوض وتنقيته من الشوائب».
وأكد لـ«الشرق الأوسط» أن رئيس الحكومة سعد الحريري «يحاول توفير توافقات سياسية لإقرار موازنة تخفّض حجم الإنفاق في الدولة، وتؤدي إلى تخفيض الدين العام الذي هو مطلب وطني قبل أن يكون مطلباً دولياً». وقال: «عندما ذهبت الحكومة إلى مؤتمر (سيدر) بموازنة عام 2018، كان العجز مقدراً بـ8.2 في المائة، وتعهد الرئيس الحريري أمام 30 دولة عربية وأجنبية ومؤسسات دولية بتخفيض الإنفاق واحداً في المائة سنوياً وعلى مدى 5 سنوات، لكن للأسف وصل العجز في 2018 إلى 11.5 في المائة لذلك لا يمكن الاستمرار بهذا النهج».
ويؤكد الخبير الاقتصادي الدكتور جاسم عجّاقة أن «مؤتمر (سيدر) فرض على لبنان إجراءات تتطابق مع المعايير الدولية للانتظام المالي». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الشروط الدولية مرتبطة بعاملين: الأول أن نسبة العجز في الموازنة تبلغ الآن 11.5 في المائة في حين يجب أن تكون أقلّ من 3 في المائة. والثاني أن نسبة الدين العام تبلغ 162 في المائة مقابل الناتج المحلي، في حين أن الانتظام العام يقول إنها يجب أن تكون أقلّ من 60 في المائة»، لافتاً إلى أن «كل عجز في نهاية السنة تموّله الدولة بالاستدانة، مما يعني أن العجز يتحوّل إلى دين».
وحذر عجّاقة من أن «الاستمرار بهذه الوتيرة يفقد الدولة السيطرة على خدمة الدين وعلى الدين العام المتأتي من هذا العجز»، مشيراً إلى أن «الحكومة وصلت إلى قناعة بأنه لا يمكن الاستمرار بهذا الواقع، ولا حلّ إلّا بتخفيض العجز، لأن الدولة تصرف أكثر بكثير من مداخيلها». وعدّ أن «عدم القيام بإجراءات علاجية يقوّض مؤتمر (سيدر)، بدليل تصريح الموفد الفرنسي لمتابعة تنفيذ مقررات سيدر (السفير بيار دوكان) الذي أكد أنه لا يمكن الاستمرار بالاستدانة وفق هذا الواقع المالي». وقال: «إذا لم نقم بالإصلاحات، فلن نحقق شيئاً من (سيدر) وسنذهب إلى الهلاك».
وفي تبريره القرارات غير الشعبية التي تعتمدها الحكومة في الموازنة، أكد مصدر سياسي لـ«الشرق الأوسط» أن «الحكومة تقوم بعملية استباقية كي لا نقع في المحظور، وهي تقدم على تقليص العجز الذي تعوضه مداخيل مؤتمر (سيدر)»، مشيراً إلى أن «ما تقوم به الحكومة رغم كل الاحتجاجات القائمة في الشارع، ستواكبه عملية مكافحة الفساد، لأن تجاهل الفساد القائم سيعيد تكبير العجز». ولفت المصدر إلى «وجود تضامن بين كل القوى السياسية، واتفاق على تجنّب المزايدات الإعلامية كي لا تذهب الجميع نحو الفشل».
وفي مقابل الأرقام المشجّعة التي ينطوي عليها مشروع الموازنة، ثمة خشية من أن تكون هذه الأرقام مجرّد دعاية إعلامية تفتقر إلى وسائل التنفيذ. ويشير الخبير الاقتصادي جاسم عجّاقة إلى أن «مشروع الموازنة الحالي يلحظ تخفيض العجز من 6.5 مليار دولار إلى 4.8 مليار دولار، وهذا أمر جيّد إذا تحقق، لأن (سيدر) يشترط أن يكون العجز دون 5 مليارات دولار»، لافتاً في الوقت نفسه إلى «وجود عدد من ملفات الفساد يجب حلّها، وهي تبدأ باستعادة أموال الأملاك البحرية والنهرية، ووقف التهريب عبر المرفأ والحدود البرية غير الشرعية التي لا تخضع لرقابة الجمارك».