التاريخ يقلب صفحات العمر والزمان من دون توقف ويذكر بعض من مروا في هذه الحياة من منطلق مناصب ومواقع بلغوها في ذروة مشوار طويل رسموه في هذه الدنيا لكن بعض الناس لا ينتظر أن يذكره التاريخ بعد رحيله، بعضهم يصنع التاريخ، يكتبه بحروف من ذهب وشجاعة وبطولة وفروسية فيصبح هو الحدث الذي لا يستطيع التاريخ إلا أن يتوقف عنده ويتمعن فيه…
هكذا هم العظماء الذين اعتاد لبنان أن يودعهم على غفلة قدر ما انفك يضرب لهذا الوطن مواعيد مع السواد والغياب إلى حد أننا بتنا يتامى القامات والهامات الوطنية الكبيرة، التي صنعت يوما مجد لبنان… على أن الأهم يكمن في أن بطريركا استثنائيا استطاع بقوته الهادئة وذكائه الحاذق وشجاعته المنقطعة النظير ونظرته الثاقبة الصائبة التي لا تخطئ هدفا ولا تضيع بوصلة أن يختصر هذا المجد في شخصه: إنه البطريرك الكاردينال نصرالله صفير.
على مدى قرن تقريبا من الزمن عاش اللبنانيون نعمة معاصرة هذا الكبير في بساطته والعظيم في صمته وتواضعه ليشهدوا له وعليه يكتب بهدوء وتصميم فولاذيين صفحات مجيدة من الحرية والسيادة والاستقلال التي تاق إليها شعبه المسيحي الخارج من إحباطات الحرب الأهلية، التي صح فيها قول كبير آخر من وطن الأرز غسان تويني، “حرب الآخرين على أرض لبنان”.
لم ترق لهذا البطريرك التاريخي مشاهد الحرب والمعارك تشلع الوطن وتصيب في ناسه وروحه ورسالته السامية الفريدة مقتلا، فبادر إلى تذكير الناس بما تعنيه الحياة في لبنان من قيم الإخاء والشجاعة والبطولة والانفتاح على الآخر، فكان أن مد يده إلى مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد في واحدة من أجمل تجليات الوحدة الوطنية، في زمن الاقتتال الطائفي المقيت.
وعلى هذه الوحدة الوطنية نفسها راهن صفير ليفتح كبريات الملفات الوطنية والسيادية، متجاوزا خطوطا سياسية حمرا رسمها أركان الاحتلال السوري وما اعترفت بها بكركي وسيدها يوما. لأن الأخير رسم المعركة ومسارها وحدد أهدافها باكرا: لا صوت يعلو فوق صوت الحرية بما فيها المطالبات بصون العيش المشترك. كيف لا “ونحن قوم عشقنا الحرية” (…). و”إذا خيرنا بين العيش المشترك والحرية، نختار الحرية”. بإرادة حرة متحررة لا تعرف إلى الخوف سبيلا وتكتفي بإيمان عميق بالله وعمله العظيم في هذا الوطن الصغير، وجدت ثورة الحرية التي نامت طويلا في نفوس اللبنانيين الأحرار تحت وطأة الوصاية السورية والممارسات القمعية من جانب حكام لا يفقهون ما في الحرية من حياة، وما في الاستقلال من بطولة في بكركي ملجأها الأول وقبلتها الأبرز وفي سيدها أبا روحيا وبطلا صار القدوة والمثال.
كيف لا وقد سمع البطريرك صفير أنين المتألمين في وطن يشبه أحلامهم الوردية وطموحاتهم اللا محدودة، فكان نداء المطارنة الموارنة الشهير (أيلول 2000) الذي أشعل نار ثورة الأرز وأتاح لمعارضي الوجود السوري أن ينطلقوا إلى الضوء ويتنعموا بالحق في النضال السياسي، شابكين أيديهم مع شريكهم الذي لبى نداء الواجب في تحرير الوطن متعاليا على جرح الاغتيال الوحشي الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري، المعارض الشرس لسوريا وتوغلها في الصورة السياسية اللبنانية فدفع من عمره ودمه ثمن خياره هذا،شأنه في ذلك شأن سائر شهداء ثورة الأرز.
مشهد كان البطريرك التاريخي الاستثنائي قد أقدم على ضم الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط إليه بإنجاز مصالحة الجبل المسيحية- الدرزية، في آب 2001 خاتما جرحا عميقا نخر الذاكرة الجماعية وأحبط المسيحيين طويلا بعد حرب 1983، وهو ما لا يقل وطأة عن حرب الإخوة بين “القوات اللبنانية” (بقيادة سمير جعجع) ورئيس الحكومة الانتقالية آنذاك العماد ميشال عون، بعيد انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل، إلى حد أنه هدد الرجلين بالحرم الكنسي في حال استمرار القتال والاقتتال البغيض غير أن هم وقف القتال هذا، المطبوع بواقعية سياسية مشهودة دفع البطريرك السادس والسبعين، إلى القبول مرغما باتفاق الطائف على رغم أنه نقل الطائفة المارونية من موقع “الطائفة المميزة” إلى موقع الشراكة المتوازنة مع الآخرين الذين ما برحوا يشكون غيابهم عن المشاركة الفاعلة في القرار السياسي.
إذا بسلاح الكلمة المدوية والمواقف التي لا تعرف إلا الفروسية سبيلا والمصلحة العامة هدفا، خاض البطريرك نصرالله صفير- الذي جمعته برؤساء الجمهورية الذين عاصرهم في فترة رئاسته الكنيسة المارونية، علاقات غالبا ما كانت متوترة، علما أن البطريرك ما بخل يوما عليهم بجرعة دعم احتاجوها لانطلاق ولاياتهم- معركة مواجهة دمشق وتمدد مخالبها في بلاد الأرز، فرفض زيارة الشام إلا ورعيته معه عندما يحين الوقت المناسب، هنا لا يمكن إلا أن تعود الذاكرة إلى أحد أكثر إجابات “بطريرك الاستقلال الثاني” عن سؤال حول موعد زيارته إلى سوريا حيث اكتفى بطرح سؤال: “أين يقع قصر المهاجرين؟” من دون أن يفوته قطع الطريق على التأويلات والتفسيرات فـ “لقد قلنا ما قلناه”.
مرت 99 عاما من عمر البطريرك ولبنان الكبير الذي عمل صفير جاهدا لصون قيمه وحريته وسيادته واستقلاله. كيف لا وهو الإرث الأكبر الذي حمله الرجل الصلب الذي يودعه لبنان في يوم ميلاده، من أسلافه الذين قادوا السفينة المارونية على مر الزمن ولم يزر البطريرك سوريا، وإن كان نجح في إطاحة وجودها العسكري في لبنان..
في عيد سيدة الزروع، وقبيل الاحتفال بمئوية لبنان الكبير، حرم القدر هذا الوطن أرزة أشبعته عنفوانا وصلابة وكرامة وصمودا. ففي “هذا الزمن الرديء”، يفضل الأبطال من صانعي المجد وكتبة التاريخ المشرف الانسحاب بخفر وهدوء وتواضع بعدما سطروا السجل الوطني بانجازات ستحفظها الذاكرة وتتناقلها الأجيال وهذه حال البطريرك صفير.
بغيابه المدوي، يتّم القدر لبنان من رجالاته العظام لكن المهم أن لبنان وسيادييه وأحراره سيتابعون المسيرة النبيلة التي أطلقها هذا الرجل الاستثنائي… حسبهم أن السماء تحتضن قديسا كان ملاكهم الحارس في حياته وصار شفيعهم بعد مماته، وهم على يقين بأن صلواته ستكون الطريق الأقصر إلى النصر…