كتب محمد وهبة في “الاخبار”:
يعاني لبنان من «سرطان» العجز التوأم: عجز الحساب الخارجي وعجز الخزينة. الحكومة قاربت المعالجة انطلاقاً من تقليص عجز الخزينة الذي يتطلب الاقتطاع من رواتب موظفي القطاع العام، ما يثير الانتقادات لكونها وصفة تعالج «النتيجة» وتهمل «السبب». في المقابل، الطرح الوحيد الذي لامس أصل المشكلة، حمله وزير الاقتصاد منصور بطيش إلى مجلس الوزراء، مقترحاً رفع الرسوم على الواردات بمعدل 3%. قد يكون الطرح الوحيد الجدير بالنقاش: هل يؤمّن إيرادات للخزينة؟ هل يخفّف حاجة لبنان للدولارات؟ هل يوفّر حماية، ولو جزئية، للإنتاج المحلي؟ هل يشكّل توزيعاً عادلاً للأعباء؟
منذ انعقاد مؤتمر «باريس 4» المعروف بـ«سيدر» تكرّست مقاربة للموازنة ترتكز على ضرورة خفض عجز الخزينة. حُصرت الخيارات بمعادلة واحدة: استمرار عجز الخزينة بمعدلاته الحالية يؤدي إلى انهيار الليرة، وهذا يتطلب «علاجاً موجعاً» عبر خفض عجز الخزينة الذي يعدّ مفتاح الإفراج عن القروض التي خصّصها «سيدر» للبنان. وستكون هذه الأموال بمثابة «المن والسلوى» لأنها ستخلق نمواً اقتصادياً وفرص عمل… هذا المسار، قاد النقاش في مشروع الموازنة نحو البحث عن الكتل المالية الكبيرة التي يمكنها أن تحقق خفضاً ينعكس إيجاباً على عجز الخزينة، إلى أن اتفق ممثلو الكتل الحكومية، في «بيت الوسط»، على مقايضة بين الاقتطاع من الرواتب والأجور بقيمة 900 مليون دولار مقابل رفع الضريبة على الفوائد من 7% إلى 10% التي تدرّ 500 مليون دولار. هذه المقايضة غير العادلة التي تساوي بين الفقير والثري، تعثّرت بدورها بسبب عدم ثقة القوى السياسية بعضهم بالبعض الآخر، إذ لا يمكن أيّاً منهم أن يتحمّل تبعات قرار الاقتطاع من الرواتب أمام أتباعهم.
زيادة الرسوم ودعم الإنتاج
من خارج هذا المسار، تبنّى وزير الاقتصاد منصور بطيش، اقتراحاً يرمي إلى رفع الرسوم الجمركية على الواردات بمعدل 3%. هذا الاقتراح يكاد يكون البند الوحيد الذي ينطوي على رؤية اقتصادية – مالية جديرة بالنقاش، بعيداً عن الطوق الذي فرضته القوى السياسية على الاقتصاد ومحاصرته بالتقشف ونتائجه الانكماشية.
تبني بطيش لهذا الاقتراح، جاء للدلالة على طريق آخر قابل للتطبيق بلا إحراج جماهيري، وينطوي على رؤية اقتصادية واضحة تتخطّى «الحسابات الدكنجية» التي يناقشها مجلس الوزراء. فبدلاً من تحميل عبء خفض النفقات للعاملين في القطاع العام، يمكن زيادة الإيرادات في الخزينة عبر زيادة الرسوم الجمركية.
اقتراح بطيش لا يقتصر على ذلك، بل يسعى لأن تكون زيادة الرسم الجمركي مقرونة بآلية دعم واضحة للإنتاج المحلي، أي إن الاستخدام الصحيح لهذه الزيادة سيؤدي تلقائياً إلى تقليص الاستهلاك المستورد، ويحمي المنتجات المحلية من المنافسة التي تتعرض لها من السلع المستوردة، ويرفع من قدرة المنتجات المحلية على المنافسة في الأسواق الخارجية.
وبحسب مصادر مطلعة، اقترح وزراء حزب الله أن تقتصر زيادة الرسوم الجمركية على السلع الكمالية وعلى السلع التي يوجد لديها بديل منتج محلياً، ما يعزّز فاعلية الاقتراح، ويأخذ الاقتراح في اتجاه البحث عن تعريف للسلع الكمالية.
علاقة سببيّة
إزاء هذا الاقتراح المختلف تماماً عن الإجراءات التي رسمها وزير المالية في مشروع الموازنة وتلك التي نوقشت في مجلس الوزراء، يظهر بوضوح أنه اقتراح ينطوي على جدوى اقتصادية تستهدف تقديم علاج لأصل الأزمة ومسببها الأساسي، أي عجز الحساب الخارجي (الذي يعبّر عنه ميزان المدفوعات الذي سجّل عجزاً تراكمياً حتى نهاية آذار 2019 بقيمة 16.4 مليار دولار).
بحسب الوزير السابق شربل نحاس، أصل المشكلة يكمن في عجز الحساب الخارجي، أي حساب لبنان مع الخارج بكل عناصره من استيراد وتصدير للسلع والخدمات والتدفقات المالية. هذا الحساب عاجز (سلبي) بشكل متواصل منذ سنوات، وليس عجزه طارئاً، ما يعني أن هناك حاجة متواصلة للتدفقات من الخارج لتمويل الطلب الاستهلاكي الداخلي للحكومة والمؤسسات والأسر. بهذا المعنى، إن ما يطرح اليوم في مجلس الوزراء من إجراءات تطاول الرواتب والأجور تأتي في سياق «علاج النتيجة»، مشيراً إلى «أنهم يعتبرون عجز الخزينة هو المتغير السلبي الذي ينعكس ارتفاعاً في العجز الخارجي، بينما يهمل السبب الفعلي الكامن في متغيّر آخر هو العجز التجاري وانعكاسه السلبي على الادخار والاستثمار والاستهلاك. والطريقة التي تتبعها الحكومة لتقديم الوصفة، هي تحميل كلّ العبء الناتج من عجز الحساب الخارجي على عاتق الادخار وقتل الاستهلاك وضرب الاستثمار».
ويشير نحاس إلى أن «المقاربة التي بُنيت عليها مناقشات الموازنة ومؤتمر سيدر، تستند إلى نظرية العجز التوأم (تزامن عجز الخزينة وعجز ميزان المدفوعات) التي وضعتها مؤسسات دولية مثل صندوق النقد الدولي للدلالة على أن إنفاق الدولة الزائد يدفعها إلى استقطاب تدفقات إضافية لتغطية الاستهلاك والاستثمار… وبهذا المعنى سلكت الحكومة طريق معالجة عجز الخزينة كمدخل لإلغاء عجز الحساب الخارجي، بينما العلاج يكون بالعكس. إن وضع رسم جمركي على الواردات يؤدي تلقائياً إلى تقليل الاستهلاك وزيادة إيرادات الدولة وتقليل الاستيراد».
ارتفاع كلفة المعيشة
توصيف المشكلة عند الوزير السابق للاقتصاد ناصر السعيدي يختلف، وإن كان يأسف أن لبنان «يعتمد على عجز ميزان المدفوعات لتمويل الدولة من طريق التحويلات». لكنه يعتقد أن زيادة الرسوم الجمركية بنسبة 3% ستؤدي إلى زيادة الإيرادات «إلا أنها ستترك أثراً سلبياً على كل السلع الاستهلاكية، ما يزيد من كلفة التصنيع ويرفع كلفة المعيشة». ومن جهة ثانية، إن تحصيل هذه الزيادة الجمركية «ليس مضموناً في ظل الإدارة الحالية في لبنان. ما نعلمه أن الاستيراد من الصين هو أكثر بأربع مرات مما هو مصرّح عنه، فما الذي يؤكّد لنا أن التصاريح الجمركية على الواردات لن تنخفض بما يوازي هذه الـ3%؟».
ويعيد السعيدي النقاش نحو الحساب الخارجي بالإشارة إلى أن المطلوب «بناء الثقة. التحاويل إلى لبنان تتراجع بسبب وضع اللبنانيين في الخليج وإفريقيا. علينا أن نشجّع التحويل إلى لبنان. كل الطرق مسدودة أمامنا، فالحصول على التمويل الداخلي يعني استقطاب مدخرات اللبنانيين، والحصول على التمويل الخارجي يعني استقطاب التحويلات، وبما أن اللبنانيين ليس لديهم مدخرات ودخلهم لا يزيد، وبما أن الجزء الأكبر من التمويل خارجي وليساً داخلياً، وليس هناك فرص استثمار حقيقية، وفرص الاستثمار المستقبلية ضعيفة، فإن العلاج المتاح هو عجز الخزينة. بآلية بسيطة تُفرض على موظفي القطاع العام من خلال التصريح عن عقودهم للمصارف، يمكن خفض الموظفين (الوهميين) بما يوازي 10% أو 15% من النفقات».
إذاً، هناك من يعتقد أن التغيير الجذري هو الحلّ، وهناك من يعتقد أن إنعاش النموذج الحالي هو الحلّ، وهذا بدوره يحصر الخيارات أمام اللبنانيين: التضحية برواتب القطاع العام مقابل إنعاش النموذج الحالي ومن دون أفق، أم التصحيح الجذري للاقتصاد؟