كتب العميد الركن الدكتور رياض شـيّا في صحيفة “اللواء”:
صحيح ان الانقسام الطائفي والمذهبي في لبنان، ولسنوات طويلة، قد نخر النسيج الوطني حتى العظم؛ فأصبح جائزاً القول أنّ ما بين اللبنانيين ما لا يمكن إصلاحه، وأنّهم لن يلتقوا أو ان يجتمعوا على أمرٍ مهما كانت الظروف.
لكنّ وفاة المغفور له غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي وافته المنية نهار الأحد في 11 أيار الجاري، قلبت فكرة انقسام اللبنانيين العميق رأساً على عقب. فما شاهدناه وما قرأناه في الأيام التي أعقبت الوفاة، سواء في وسائل الإعلام المرئي والمسموع أو على شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، كان اندفاعاً عفوياً واسعاً من اللبنانيين، من جميع الطوائف، بالترحم على الراحل الكبير والإشادة بمزاياه الأخلاقية الرفيعة ومواقفه الوطنية الراسخة ومنطوقها السيادي في جميع المحطات التي مر بها لبنان. فإلى عظمة الفقيد ورفعة مقامه وسموّ أخلاقه وسيرته الناصعة، والى تحوله رمزاً استقلالياً بارزاً وصوتاً صارخاً خلال الحقبة السورية في لبنان، فإنّ ردة فعل اللبنانيين إثر رحيله حملت كثيراً من المعاني والعبر.
إنّ اللبنانيين جميعاً، في رثائهم للبطريرك صفير، قد أفصحوا أنّ مجد لبنان وتاريخه، قيماً وثقافةً وتنوّعاً وحرية، والتي كان صفير حارساً أميناً لها، ومنافحاً شجاعاً عن استقلالها، إنّما هي عقيدة وإيمان كل واحد منهم، وما كان الراحل سوى الرمز والمشعل والناطق باسمهم جميعاً مواطنين مؤمنين بهذا الوطن وبقيمه. فاجتماعهم على هذا الرأي، إن دلّ على شيء، إنّما يدل على تأصل الانتماء الوطني ورسوخه، وعلى ثبات الإيمان بلبنان الوطن والولاء له، على الرغم من محاولات حرفهم عنه، واستبداله بولاء لمذهب أو لطائفة حيناً ولخارجٍ أحياناً.
إنّ هذا الاجماع الذي ظهر حول شخصية البطريرك صفير، كقامة وطنية مكتملة الصفات، رأى فيها اللبنانيون نموذجاً مختلفاً باتوا يفتقدونه في واقعهم الحالي. إنّه نموذج يجب ان يكون رجل الدولة على شاكلته وعلى مثاله: تواضعاً على صلابة، زهداً على أنفة، نظافةَ كفّ على استقامةٍ وكِبر، تعففاً وترفعاً على عزة نفس، جرأةً وشجاعةً على تعقل، إعلاءً للحق دون مساومة أو مهابة، قولاً حرّاً على صدقٍ والتزام، إخلاصاً للوطن الى حدود القداسة، تفانٍ في البذل والعطاء من دون منّة، خدمة المحتاج لأجرٍ في السماء، توحيد اللبنانيين صفاء للعيش ودوامه، الى غير ذلك مما أنعم الله عليه من سموّ الصفات وعلوّ المقام.
هذه الصفات – القيم هي سر تعلق اللبنانيين بهذه الشخصية الساحرة التي جذبت الناس اليها، ودخلت القلوب دخول الملائكة. فكأني باللبنانيين قد رأوا بالراحل الكبير طائراً ملائكياً غرد طويلاً خارج سربه في هذه البرّية التي تزداد يباباً وتزداد سواداً. إنّه من دون شكّ رمز وطنيّ فيه من القداسة ما سمح لأبنائه، عشاق الحرية والاستقلال، بالاتكاء الى صخرته الصلبة يوم عزّت قيم المناعة والسيادة والاستقلال.
وإذا كانت الأقدار قد شاءت أن يكون عمر صفير بعمر لبنان الحديث، ليولدا معاً في العام 1920، فمن الحري أن يسير أبناء هذا الوطن، حكاماً ومحكومين، على ذات درب القيم التي سلكها صفير.
ترى، أيمتى سيقدر لحكامنا وقادتنا الامتثال والعودة الى الصراط المستقيم الذي رسمه المغفور له البطريرك صفير طيلة عمره المديد.