كتب يوسف دياب في صحيفة “الشرق الأوسط”:
دخلت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية مرحلة معقدة، بعد إصرار قضاة لبنان على تحدي الحكومة المصرّة على حسم نسبة من مخصصاتهم وتخفيض المساهمة في صندوق التعاضد العائد لهم، وتخفيض تقديمات منح التعليم والاستشفاء، وهو ما أبقى اعتكاف القضاة الذي دخل أسبوعه الرابع مفتوحاً لأجل غير مسمّى، مع ما يترتب على ذلك من آثار سلبية جراء تعليق البت بآلاف الدعاوى القضائية، وبقاء حقوق الناس معلقة على أمل انتهاء هذا الإضراب، وحرمان خزينة الدولة من إيرادات مالية كبيرة، بفعل التوقف عن إصدار الأحكام وجباية الرسوم القانونية للدعاوى، فضلاً عن رسوم مخالفات السير التي تدر على الخزينة أموالاً طائلة.
وفي غياب أي التفاتة من قبل الحكومة حيال مطالب القضاة، عقد أكثر من 300 قاضٍ اجتماعاً أمس في قاعة محكمة التمييز، بقصر العدل، في بيروت، بناء على دعوة من مجلس القضاء الأعلى، الذي وضع القضاة في صورة اتصالاته مع الحكومة ومجلس النواب، التي لم تحرز أي تقدم ملموس، وهو ما دفع القضاة إلى اتخاذ القرار بالاستمرار في الاعتكاف، إلى حين صدور إعلان صريح عن الحكومة أو المجلس النيابي، بإلغاء البنود التي تتضمنها الموازنة، والتي تقتطع جزءاً من مخصصاتهم؛ سواء في صندوق تعاضد القضاة أو التقديمات الاجتماعية.
وبينما لم يصدر بيان عن المجتمعين هذه المرة، أكدت مصادر قضائية لـ«الشرق الأوسط» أن القضاة «اتفقوا على عدم التراجع عن مطالبهم المادية والمعنوية، والاستمرار بوتيرة التصعيد إلى أن تعترف السلطة السياسية بأن القضاء سلطة مستقلة، يجب التعاطي معه على هذا الأساس». وشددت على أن «المنصب القضائي لم يعد مغرياً لكثيرين من القضاة، الذين يتكبدون عناء الانتقال من مكان سكنهم إلى مراكز عملهم في محافظات أخرى، ودفع مصاريف الانتقال، وتكبد التعب النفسي والجسدي من دون أي مقابل مادي أو معنوي، في وقت باتت أوضاع موظفين في كثير من إدارات الدولة أفضل بكثير من أوضاع القضاة». وأعطت مثالاً على ذلك بـ«الامتيازات التي يتمتع بها الضباط في المؤسسات الأمنية والعسكرية، بحيث يُعطى الضابط سيارة عسكرية وربما أكثر، بالإضافة إلى مرافقين، بالإضافة إلى نيل كل ضابط 20 صفيحة بنزين، علماً بأن أغلبهم لا يستخدم سيارته الخاصة، بل سيارات عائدة لمؤسساتهم، كما هو الحال بالنسبة لموظفي وزارة المالية ومصرف لبنان والجمارك وغيرها».
ويعمل القضاء اللبناني الآن بربع طاقته، بعد أن التزم غالبية القضاة قرار الاعتكاف، والامتناع عن عقد جلسات المحاكمة أو التحقيق، رغم أن أغلبهم يداومون في مكاتبهم، إلا أن قرار الاعتكاف أو المقاطعة لا يسري على الملفات التي تتعاطى مع موقوفين، والتي تتطلب ضرورة النظر بها والبت بطلبات إخلاء سبيل هؤلاء الموقوفين، أو قضايا تتعلق بفك الرهن أو المزاد العلني، وهذه الحالة أشبه بمناوبات العطلة القضائية، ما يعني أن القضاة دخلوا إجازة قضائية مبكرة، قد تتصل بالعطلة القضائية الدورية التي تبدأ في منتصف شهر يونيو (حزيران) المقبل، وتستمر حتى الأول من سبتمبر (أيلول)، وربما لا يعرف أفقها قبل إقرار الموازنة في البرلمان وصدورها بقانون.
ولم تخفِ المصادر القضائية أن «القضاة باتوا يشعرون بخطر حقيقي على أمنهم الاجتماعي، من هنا يجب فهم أبعاد الاعتكاف الذي يعبر عن مرارة وليس عن رغبة بالإضراب أو تأخير البت بقضايا الناس، التي هي أمانة في رقاب القضاة المؤتمنين على هذه الحقوق». وشددت على أن وضع القضاء «لن يستقيم إلا بإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية عن السلطة السياسية مادياً ومعنوياً، وأن تبقى العلاقة بينهما في إطار تعاون السلطات لا تبعية لإحداها للأخرى». ورأت أنه «من غير المقبول خضوع التعيينات في المراكز القضائية العليا والمناقلات القضائية لمراسيم تصدر عن مجلس الوزراء». وقالت: «يجب اختيار قضاة مجلس القضاء الأعلى والمراكز الأساسية بالانتخاب، وأن تجري التشكيلات القضائية بقرار يصدر عن مجلس القضاء الأعلى لوضع القاضي المناسب في المكان المناسب، وفق معيار النزاهة والكفاءة والاستقامة، وليس بمعيار التبعية السياسية لهذا الزعيم أو ذاك أو هذا المرجع الديني أو ذاك».