كتب البروفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
تكاثرت التسميات بين موازنة إصلاحية، تقشفية، تصحيحية… والنتيجة واحدة، موازنة من دون هوية. والسبب يعود إلى الصراعات السياسية التي تُطيح فرصة الإستفادة من الظروف والوقت لإخراج موازنة تكون على مستوى التحدّيات. سيناريوهات عديدة أمام الحكومة واسوأها تعطيلها. فما هي هذه السيناريوهات وما هي التداعيات الاقتصادية؟
عشرة أيام على انتهاء المهلة التي وضعها المجلس النيابي لإقرار الموازنة، وحتى الساعة لم تُرسل الحكومة مشروع الموازنة. السيناريوهات المطروحة أمام الحكومة لها تداعيات إقتصادية وسياسية.
مشروع الموازنة بصيغته الأخيرة كما قدّمها وزير المال، شبيه بما قدّمه في المشروع الأول، ويشمل تعديلات على عدد من النقاط التي تمّ التوافق عليها سابقًا من دون الإقتراحات التي قدّمها وزير الخارجية في جلسة نهار الجمعة. وأهم الإجراءات الواردة في مشروع الموازنة بصيغته الأخيرة: رفع الضريبة على فوائد الحسابات المصرفية من 7 إلى 10%، زيادة شطر على ضريبة الدخل (أعلى من 225 مليون ليرة)، خفض عتبة الخضوع لضريبة الدخّل من 100 إلى 50 مليون ل.ل، زيادة بعض رسوم الأمن العام، تعديل رسوم السير، تحويل الغرامات إلى خزينة الدوّلة، فرض رسوم على الأرقام المميّزة، تعديل رسوم إجازات العمل، إعفاء من الغرامات، خفض ضرائب على إعادة تقويم الأصول الثابتة للشركات والعقارات، إرغام البلديات على التصريح عن الشركات في نطاقها، خفض رسوم السير للدراجات، إضافة تحفيزات للمشاريع الإستثمارية، تشجيع التوظيف، ضريبة دخل على معاشات التقاعد، تجميد طلبات الإحالة إلى التقاعد، إقتطاع 3% من رواتب العسكريين المتقاعدين بدل تقديمات إجتماعية، منع الجمع بين معاش تقاعدي وأية مداخيل أخرى، رفع سن التقاعد للعسكريين، إلغاء الإعفاءات على الرسوم الجمركية مع بعض الإستثناءات، وضع سقف 75% للتعويضات وملحقات الرواتب، خفض الإجازة السنوية من 20 إلى 15 يومًا، منع توزيع الأرباح والرواتب الإضافية، خفض مساهمة الدولة في المدارس المجانية الخاصة…
دينامية الإنفاق
في الشكل، وبفرضية تعديل تطبيق التدبير رقم 3، إستطاعت الحكومة تقريبًا تحقيق الوفر المطلوب. إلا أنّه وفي المضمون، لا يُمكن الإتكال على هذه البنود بالمطلق نظرًا إلى أنّ هناك دينامية في الإنفاق العام (مثلاً الأجور التي تزيد تلقائيًا مع الدرجات) وتخطّي السقف في بعض الأحيان (نتيجة التوظيف العشوائي مثلًا)، ولكن أيضًا هناك تخلّفاً عن التحصيل كما تُظهره الأرقام في قطوعات الحساب. ولا يجب نسيان أنّ كل هذه الإجراءات لن تدخل حيّز التنفيذ إلّا في أول الشهر السابع من هذا العام، ما يعني أنّ هناك إلزامية لمزيد من الإجراءات لضمان نتيجة عجز بأقلّ من 5 مليارات دولار أميركي في العام 2019.
عمليًا، إحتمالات تخفيض العجز تخف مع الوقت. ومع عودة التحرّكات الشعبية اليوم المُتمثّلة بإضرابات في العديد من القطاعات، قد تجد الحكومة نفسها محصورة في عدد من السيناريوهات:
أولًا – سيناريو موازٍ لسيناريو سلسلة الرتب والرواتب، حيث ستعجز الحكومة عن إقرار موازنة تُحاكي التحدّيات الحالية والمستقبلية وبالتالي ستُرسّل الكرة إلى ملعب المجلس النيابي من خلال موازنة أرقامها على الورق جيّدة ولكن على الأرض ستكون هذه الأرقام مغايرة لما هو مُتوقّع.
ثانيًا – تعطّيل الحكومة نتيجة الخلافات السياسية إن من خلال الإستقالة أو من خلال وقف الإجتماعات وبالتالي الموازنة، وهو سيناريو مُكلف جدًا ومُستبّعد في نفس الوقت نظرًا إلى أنّ القوى الأساسية المُتمثّلة بالأحزاب المشاركة في الحكومة ترغب في تمرير هذه المرحلة الدقيقة بأقل الخسائر المُمكنة خصوصًا أنّ هناك عددًا من الإستحقاقات الداهمة مثل ملف النفط وأموال «سيدر» وغيرها. لكن التسريبات من مجلس الوزراء تقول إنّ الإنتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة حاضرة بقوة في اجتماعات مجلس الوزراء ولو بشكل مبطّن.
ثالثًا – إقرار موازنة مثالية فيها إصلاحات مالية واقتصادية بالإضافة إلى خفض في العجز المالي، وهو سيناريو مُستبعد أيضًا بسبب الإنقسام السياسي الذي أظهرته إلى العلن الإجتماعات المتتالية للحكومة لدرس مشروع موازنة 2019.
رابعًا – الكلام الصادر عن رئيس الإتحاد العمّالي العام بحق البطريرك صفير، أظهر إلى العلن سيناريو آخر. في الواقع تعطيل الإتحاد العمّالي العام وتعليق عضوية العديد من النقابات منه، سيؤدّي حكمًا إلى إضعاف الشارع وبالتالي سيكون أمام الحكومة فرصة قدّ تستغلّها لتمرير عدد من «الإصلاحات» المرفوضة شعبيًا، ما يعني إمكانية أن تطال الإجراءات موظفي القطاع العام بكل شرائحه باستثناء القطاع العسكري، حيث أن المُتقاعدين العسكريين لا يدورون في الإتحاد العمّالي العام، وبالتالي فإنهم سيتسمرون بالضغط في الشارع.
السيناريو الرابع قد يكون الأكثر إغراءً للقوى السياسية المُحرجة أمام جماهيرها. فردّات الفعل التي قام بها المتظاهرون في الأسابيع الماضية والتي آلت إلى إقفال العديد من المرافق الحيوية للدوّلة، أدّت إلى خسائر مالية وإقتصادية تسعى الحكومة إلى توفيرها في الموازنة، وبالتالي فإن إستمرار الإضرابات سيقوّض حكمًا الإجراءات المُتّخذة في الموازنة. ما سيدفع القوى المشاركة في الحكومة إلى الإستفادة من غياب التنسيق بين النقابات (في إطار الإتحاد العمالي العام) وبالتالي تمرير عدد من الإجراءات على بعض البنود المُكلفة على خزينة الدوّلة مثل الأجور في القطاع العام، مستفيدين من لعبة توزيع الأدوار.
اللافت في الأمر، هو الرفض القوي لاقتراح فرض رسوم جمركية على السلع والبضائع المستوردة بحجّة رفع الأسعار على المواطن اللبناني من جهة ومخالفة المعاهدات الدوّلية من جهة أخرى. في الواقع كلا الحجتين لا يقوم، بحكم أنّ إعادة فرض الرسوم الجمركية مسموح في نصوص المعاهدات الدوّلية حين تكون الدولة في حالة عجز هيكلي في ميزان مدفوعاتها، كما أنّ هذا الإجراء يُحفّز إستهلاك السلع والبضائع اللبنانية ويُشجّع على الإستثمار لتنويع الإنتاج. أضف إلى ذلك الكمّ الهائل من الأموال الذي قدّ يدّره على خزينة الدوّلة مثل هذه الإجراء (أكثر من 500 مليون دولار سنويًا في أسوأ الأحوال).
أيضًا نلحظ أنّ هناك غياباً واضحاً لإجراءات تطال التهريب الجمركي على المرفأ (بيروت وطرابلس) والمطار، مع العلم انّ مُشكلة التهريب على الحدود تمّ إسنادها إلى مجلس الدفاع الأعلى. وهناك شبه غياب كلّي لواقع الأملاك البحرية والنهرية من مشروع الموازنة مع البقاء على ما تضمّنته موازنة 2017 وبالتالي المدخول من هذه الأملاك بحدود الـ 100 مليون دولار أميركي.
غياب هذه الإجراءات أعلاه تُضعف إلى حدّ كبير وقع الإجراءات المُتخذة حتى الساعة، إن على الصعيد المالي أو على الصعيد الاقتصادي والإداري. وبالتالي يُطرح السؤال: هل ستتجرأ الحكومة على الدخول في مناقشة هذه البنود أم تعتمد السيناريو الرابع الآنف الذكر؟