اذا كان بشارة الأسمر، الماروني الجزيني، الذي كان ينتظره كثيرون على «الكوع»، باعتباره ممتلئ الجيب من رواتب ومنافع ميناء بيروت، دفع، ويدفع، وسيدفع كلفة غالية، من جرَّاء كلامه البذيء والمسيء لشخصية دينية رفيعة مثل الكاردينال الماروني الراحل البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، والكلفة هذه بدأت بالادعاء والإستجواب والتوقيف، وصولاً الى المحاكمة وفرض العقاب، وفقاً لقانون العقوبات اللبناني، واستمرت ادانة واسعة عبر الإعلام والسياسة، وصولاً الى الحرم الكنسي، وربما التكفير، على الرغم من التراجع عن الخطيئة، انتهاء بفقدان منصبه كرئيس للاتحاد العمالي العام، الذي هو أحد التنظيمات الشرعية التي تعترف بها الدولة اللبنانية، وتخصه بمرافقة، وحضور رسمي، في الداخل وعلى مستوى منظمة العمل العربية، والإتحادات العربية والدولية، والذي يفتقد الى كل ذلك «البريق الإعلامي» الذي يتطلع إليه العاملون في الشأن العام، فالسؤال بالمقابل، على ضفة الأزمة، التي كان «الاتحاد العمالي» أحد الأجسام النقابية، المعنية بها، من الإضرابات الى الاقفال العام، دفاعاً عن المستخدمين والعمال وذوي الدخل المحدود من سيدفع «كلفة التقشف»: هل القطاع المالي، المصرفي، هل الحكومة، أم القطاع العام، أم السياسيون والمؤسسات المرتبطة بهم أم مَنْ؟
هذه التساؤلات، ذات الصلة بالموازنة المتقشفة التي تسعى إليها الحكومة، التي تشهد أخطر أزمة ثقة بين مكوناتها منذ تأليفها، المتأخر، منذ أشهر على خلفية ادارة التقشف، وأبوابه، وتخفيضاته، طرحها أيهم كامل، وهو رئيس قسم الأبحاث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا رداً على سؤال ضمن «تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ»، وفيه ان الحديث عن «الإنهيار الإقتصادي» والذعر بسبب الاصلاحات التي قد تطال المواطنين، منتشر في الشوارع وعلى شاشات التلفزة.
ولم يدر في خلد الأوساط المالية والاقتصادية المراقبة ان تنبس ببنت شفة لجهة التقليل من شأن التظاهرات والإضرابات ضد تدابير التقشف التي يجري التداول الجدّي فيها على الرغم من النفي المتكرر للمسؤولين المعنيين، كوزير المال مثلاً، على الصعوبات التي تبرز بوجه انتاج موازنة متقشفة، تتحكم فيها لغة الأرقام والحسابات، في وقت حافظت فيه تدفقات الودائع المصرفية على وتيرتها المستقرة، في توفير «العملة الصعبة» مع تقلص ملحوظ في أصول المصرف المركزي من النقد الأجنبي (والكلام لـ«بلومبرغ»).
في بلد يعد البلد الثالث في العالم من حيث المديوينة.. والمرجحة ان ترتفع من 160٪ من الناتج المحلي الى 180٪ بحلول عام 2023، يصبح لبنان في المرتبة الثانية، بعد اليابان من حيث المديوينة، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
لا تكمن الصعوبات بحركة الشارع، التي قد تحدث تطورات، تضعف هذه الحركة، مثل الضغوطات على النقابات المهنية، من قبل أحزاب التكتلات النيابية والوزارية والطائفية المتحالفة ضمن اطار «حكومة الى العمل»، أو انصياع الأجسام السلطوية والوظيفية لمتطلبات العمل، مثل عدم شل البلد، والقضاء وإضاعة العام الجامعي أو الدراسي إلى آخر ما يمكن أن يطرأ، ولم يكن في الحسبان، وانما تعود الصعوبات الكبرى الى ما أسماه، الرئيس سعد الحريري بـ«المتاريس السياسية» داخل مجلس الوزراء، أو بعبارة رئيس السلطة الإجرائية «عندما يتحول مجلس الوزراء الى متاريس سياسية»، يكمل النتيجة الطبيعية، وهي «تتعطل السلطة التنفيذية وتتوقف الدولة عن العمل».
أزمة الصعوبات، تكمن إذاً، في الصعوبات السياسية، في قدرة المؤسسات الدستورية، التي انبثقت عن الطائف في إدارة الحكم، ليس في وضع «أزمات»، بل بشكل عام، وفي الأحوال العادية، بعدما فتح الطائف باب الشراكة ليعطي «صورة مشوهة» عنها، وليطرح جملة من التحديات، ضمن معادلة بالغة التعقيد: موازنة أو انهيار الحكومة..
كان الفريق الآخر في السلطة، الذي يعتقد انه انتزع كفاءة تمثيل المسيحيين، بقوة، بعد نسج شبكة من العلاقات والتحالفات، مكنته، من إقصاء حلفائه المسيحيين، واحداً تلو الآخر للتفرد في الإعراب عن الموقف المسيحي، والتلويح بأن فريقه لن يبقى في الحكومة، إذا.. وإذا..
وهذه «الإذا» تتعلق بسعيه الدؤوب لانتزاع القرار بكامله، لم تعد المسألة، ميثاقية أو شراكة، أصبحت رغبة جامحة بوضع اليد رسمياً على قرارات الدولة.. فعلى مجلس الوزراء إشعار وزير المال، المحسوب على حركة «امل» انه ليس كفؤاً لاعداد موازنة، بلا برامج وهيكليات واقتراحات.. ولا بأس، فلتأخذ المناقشات وقتاً أطول.. علَّ وعسى..
بالمقابل، يشعر وزير المال، ليس من موقع صلاحياته الدستورية بإعداد مشروع الموازنة وعرضها، وتقديمها للحكومة، بل من موقع تمثيله السياسي والطائفي، ان وراء الأكمة ما وراءها.. إنه مستهدف مع فريقه، لإظهار عجزه، وعجز حركته (التي تمثل الشيعة) عن ادارة ملف، مثل ملف الموازنة، وهذا يطرح جملة من الأسئلة والتحديات، قد لا يكون وراءها ما وراءها؟!
في الصراع الخفي، والمحتدم هذا، وبين ما يسميه باسيل «بمنطق الميليشيات» ومنطق الدولة (عبر المؤسسة العسكرية) التي خرج منها التيار الوطني الحر الذي يتزعمه، وعينه على الزعامة المسيحية، ومنها على الرئاسة الاولى، بعد ثلاث سنوات ويزيد، في محاولة لصياغة استعادة دائمة للدور المسيحي، والماروني، التقريري في القرار الرسمي للدولة اللبنانية، سواء أبقيت دولة كما هي الآن، وان بدت عاجزة، او تحولت الى «دولة اتحادية»، على غرار ما هو قائم في العراق او دول أخرى في المنطقة.
ديوك ثلاثة على مسرح الموازنة: الرئيس الحريري، كزعيم للسنّة، وكأب للسنّة اللبنانيين، الوزير علي حسن خليل، كمرشح محتمل بعد نهاية ولاية المجلس الحالي، لأخذ دوره في رئاسة حركة «امل»، وعينه على رئاسة المجلس، وباسيل، الذي لا يخفي طموحه الى الدور المشار اليه، في ما تقدم..
والصعوبة السياسية الكبرى، لا تأتي من فراغ، فهي ذات صلة بالانشغالات الدولية والاقليمية الكبرى بإعادة صياغة الهيكليات السياسية والاقتصادية لدول الاقليم، وسط ضغط اميركي غير مسبوق لتحجيم ادوار الميليشيات، والأحزاب المرتبطة «بالحرس الثوري» الإيراني عبر «طرازات» غير مسبوقة من العقوبات، لا تكتفي بملاحقة حركة الأموال، بل تذهب الى «تصفير النفط» وخنق الاتصال الاقتصادي بين ايران والجهات الحزبية المسلحة، والمرتبطة بها، الى درجة الإعدام.
ولم تكن مجرَّد صدفة ان يخترق مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد الانشغال اللبناني بالموازنة ليظهر استعداد إدارته لاستئناف دور الوساطة بين لبنان واسرائيل لتهدئة التوترات بين الجهتين في ما يتعلق «بالمناطق البحرية» العائدة لكل منهما في اطار التنقيب عن موارد الغاز والنفط شرق المتوسط، وذلك في اطار استراتيجية اميركية «لا تتعلق فقط بالرغبة في ضمان امدادات النفط والغاز الطبيعي للأسواق العالمية، وانما أيضاً حماية المصالح الأميركية المتمثلة في مشاركة بعض الشركات الأميركية في عمليات التنقيب والانتاج في قطاعات النفط والغاز الطبيعي بالعراق ودول منطقة الشرق الاوسط». (راجع التقرير الاستراتيجي السنوي الصادر عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة).
من المستبعد ان تؤدي التوترات الحاصلة داخل مجلس الوزراء الى احداث وضع، يكون الاستقرار السياسي والاقتصادي النسبيين موضع تساؤل أو شك، لكن الثابت أن لبنان، سلطة الطائف، الذي ينظم الحكم ائتلافي في بلد متعدد الطوائف، هي المطروحة على الطاولة، سواء اقرت الموازنة اليوم أو غداً، أو تأخرت، أو حدث ما لم يكن في الحسبان، في بلد غريب الأطوار مثل لبنان، سواء ذهب البلد يبحث عن أموال «سيدر» أو تمكن من تجاوز الصعوبات الموضوعة؟! طبيعياً بفعل السياسات الإقتصادية، وسياسياً، بحسب تنازع الأهواء والمصالح…
واذا كانت عوامل لم تكن بالحسبان، كالخفة وعدم التحسب، وسلطة الإعلام، قد ذهبت برأس «الأسمر»، فأي رؤوس ستذهب بها «الموازنة» أقرت أو لم تقرّ، خفضت أم لم تخفض، نجحت الحكومة أو فشلت.. إنها مسألة رهانات، ومسألة تحديات، ومسألة انتظار، وسط ثقة مفقودة، آخذة بالتعاظم؟!