11 عاما بالتمام والكمال مرت على مؤتمر الحوار الوطني الذي استضافته العاصمة القطرية الدوحة لإنهاء الأزمة السياسية غير المسبوقة التي عصفت بالبلاد منذ انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في تشرين الثاني 2007، بعد التمديد له، وهو القرار الذي دفع الرئيس الشهيد رفيق الحريري حياته ودمه ثمنه في سياق المواجهة المفتوحة مع سوريا التي كان أبرز وجوهها.
على أن الأهم، بعد 11 عاما على توقيع الاتفاق، يكمن في أن الذاكرة السياسية اللبنانية لن تتمكن من القفز بسهولة فوق موازين القوى و”المصطلحات والمفاهيم السياسية” الجديدة التي أدخلها هذا الاتفاق والأزمة التي أدت إلى المشهد العام في لبنان، لاسيما في ما يتعلق بسلاح “حزب الله” وقدرته على تفصيل الصورة على قياسه تبعا لما يناسب مصالحه وتموضعاته على المستويين الإقليمي والمحلي من دون أن يعني ذلك إطلاق نفير مواجهة سياسية متكافئة بين الحزب وأخصامه.
وليس أبلغ إلى ذلك دليلا إلا استعادة سريعة للسياق السياسي الخطير الذي كان لبنان يتراقص على حافته قبل 21 أيار 2008.
في هذا الإطار، يلفت مراقبون عبر “المركزية” إلى أن “الرئيس لحود نام على حرير التمديد له وخاض المواجهة المفتوحة مع معارضيه حتى النهاية وغادر القصر الجمهوري في الموعد المحدد لانتهاء ولايته الممددة في 24 تشرين الثاني 2007. وفي غياب التوافق السياسي على خلف له ساد فراغ طويل، هو الأول من نوعه من حيث المدة، إلى أن خرق فريق 14 آذار الجمود بطرح اسم قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان (الذي كانت المؤسسة العسكرية سطرت، بقيادته، ملحمة معركة مخيم نهر بارد في مواجهة فتح الإسلام في أيار 2007، وأجهضت تحت إشرافه حلم قيام إمارة إسلامية في طرابلس في المهد)، مرشحا توافقيا قادرا على قيادة سفينة البلاد وإعادة ضخ الحياة في مؤسساتها الدستورية.
لكن، في انتظار القرار السياسي والإقليمي لإنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني، تعايش “حزب الله” قسرا مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي استلمت زمام الأمور إلى حين اتمام الواجب الدستوري الرئاسي، غير أن قرارين حكوميين كانا كفيلين بقلب المشهد رأساً على عقب.
ذلك أن انكشاف إحدى الثغرات الأمنية الخطرة في المطار معطوفا على ضغط من الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط، دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار إقالة رئيس جهاز أمن المطار وفيق شقير (المحسوب على الحزب)، إضافة إلى اعتبار شبكة الاتصالات اللاسلكية العائدة إلى “المقاومة” غير شرعية.
قرارات لم تجد الضاحية فيهما إلا استهدافا مباشرا لا يمكن أن يكتفى بالأسلوب السياسي “اللبق” للرد عليه، فكانت أحداث 7 أيار في بيروت، حيث لم تتردد الضاحية في استخدام ترسانتها وتوجيهها إلى الداخل لتنفيذها، في سياق المواجهة ذات الطابع السيادي مع الفريق الآخر. أمام هذا المنزلق الخطير، تحرك أصدقاء لبنان، على عادتهم لانتشاله من كبوته فكانت المفاوضات اللبنانية تحت شمس قطر التي انتهت إلى ولادة اتفاق الدوحة.
لا شك في أن التاريخ سيسجل لهذا الاتفاق نجاحه في إنهاء الفراغ الرئاسي بنقله العماد ميشال سليمان من رتبة قائد الجيش إلى مرتبة ربان السفينة الرئاسية والوطنية.
لكن الأهم، وربما الأخطر يكمن في أن هذا الاتفاق مد فريق الحزب والدائرين في فلكه من الحلفاء بالقدرة على تعطيل عجلات الحكومة، “عندما تدعو الحاجة”، من منطلق ما سمي “الثلث المعطل”، الذي بات اللازمة لكل عمليات تأليف الحكومة منذ ذلك الحين، وآخرها تشكيلة حكومة “إلى العمل”، بدليل أن الحزب وحلفاءه استخدموا سلاحهم الأمضى لإطاحة حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى فيما كان يهم بالدخول إلى البيت الابيض للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما في كانون الثاني 2011، تمهيدا للقبض على القرار السياسي في البلد من خلال حكومة من لون واحد شكلها مرشح الضاحية إلى الرئاسة الثانية الرئيس نجيب ميقاتي. وفي هذه المرة كان الشارع واستعراضات القوة والقمصان السود الوسيلة الفضلى لدى الحزب لتحريك البوصلة السياسية في الاتجاه الذي تشتهيه سفنه..
على أي حال، فإن اتفاق الدوحة ينص أيضا على إجراء الانتخابات على أساس صيغة معدلة من قانون الستين (وهو ما عرف بقانون الـ 2008)، والتعهد بعدم الإقدام على إطاحة الحكومات وهو البند الذي قفز فوقه الحزب وحلفاؤه.
هذه الصورة تتيح لمصادر سياسية الإشارة عبر “المركزية” إلى أن “اتفاق الدوحة الذي كرس مفهوم الثلث المعطل قد يكون هو نفسه السبب الكامن خلف منطق التسويات الذي يسير بهديه معظم أطراف الاتفاق الأخير تفاديا للمواجهة غير المحسوبة النتائج مع الحزب. ويبقى الرئيس الحريري، صاحب التعاطي السياسي الواقعي مع موازين القوى في البلا، مضرب المثل في هذا الشأن، مع ما يعنيه ذلك من تساؤلات حول مدى قدرة لبنان على الصمود في ظل هذه المعادلات السياسية الهشة…